مارك كيرستن*
المُحاكمات لم تنتهِ بعد. تم تحقيق القليل من العدالة. لكن بعد 12 عاماً ودفع مليار دولار بعد تكليفها بمحاكمة المسؤولين عن تفجير بيروت في العام 2005 الذي أدّى إلى مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري و21 آخرين، أعلنت المحكمة الخاصة بلبنان أنها ستُغلِق أبوابها بحلول نهاية هذا الشهر. السبب؟ نقص المال. قد تكون هناك أسبابٌ وجيهة للمحكمة الخاصة بلبنان لإنهاء أعمالها. ومع ذلك، من خلال عدم تمويلها حتى نهاية محاكماتها، يُخاطر المجتمع الدولي بتقويض جهود العدالة الدولية على نطاق أوسع – الأمر الذي قد يُكلّفه أكثر.
تأسّست المحكمة الخاصة بلبنان في العام 2009، وهي من بين الجيل الأول مما يُسَمّى بالمحاكم المُختلطة/الهجينة التي أُنشِئت لمعالجة الفظائع والجرائم الجماعية. وهذه المحاكم تمزج وتتوافق مع العناصر الدولية والوطنية. على سبيل المثال، عادةً ما تستعين بموظفين دوليين ومحلّيين وقوانين مختلطة. بسبب التوترات السياسية والمخاطر الأمنية، غالباً ما توجد المحكمة الهجينة خارج البلد حيث تُركّز تحقيقاتها. وهذا الوضع صحيح بالنسبة إلى المحكمة الخاصة بلبنان التي مقرّها في لاهاي.
هناك اعتقاد خاطئ شائع بأن العدالة الجنائية الدولية هي مشروعٌ مُكلف. بالنسبة إلى ما تحاول تحقيقه، فهو ليس سوى شيء قليل. على سبيل المثال، بلغت موازنة المحكمة الجنائية الدولية، التي تُمَوَّل من الاشتراكات المُقدَّرة من الدول الأعضاء، حوالي 175 مليون دولار في العام 2020.
يُمكن أن يأتي تمويل المحاكم مثل المحكمة الخاصة بلبنان من “اشتراكاتٍ مُقَدَّرة”، حيث يُطلَب من الدول المعنية أن تمنح المحكمة مبلغاً مُخصّصاً من التمويل كل عام. وبدلاً من ذلك، يُمكن تمويل المحاكم من خلال “المساهمات الطوعية”، حيث تُقدّم الدول أموالاً طوعية للمؤسسة. المساهمات المُقرَّرة هي الأفضل دائماً لأنها مُستقرّة وتحمي بشكل أفضل استقلالية المحكمة. على النقيض، يمنح التمويل الطوعي الدول سيطرة أكبر على المحكمة من خلال ربط التمويل بقراراتها، بما في ذلك الذي تستهدفه المُحاكمة. كما أنه يُجبِرُ موظفي المحكمة على تخصيص وقتٍ وطاقة كبيرين لجمع الأموال بدلاً من العمل على تحقيق المُساءلة.
تجمع المحكمة الخاصة بلبنان بين نماذج التمويل هذه: يتم تمويل 51 في المئة من الموازنة من خلال المساهمات الطوعية و49 في المئة من قبل الحكومة اللبنانية. لكن مع دخول لبنان في أزمات اقتصادية وسياسية، أعلنت البلاد في حزيران (يونيو) أنها لم تعد قادرة على دفع مستحقاتها. وعلى الرغم من مناشدات بيروت والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للمجتمع الدولي، لا أحد مستعد لتحمّل المسؤولية.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تُواجه فيها محكمة مختلطة/هجينة حالة تمويلية صعبة.
في العام 2009، كادت المحكمة الخاصة بسيراليون تنفد من السيولة النقدية لدرجة أن محاكمة الرئيس الليبيري السابق تشارلز تيلور بدت وكأنها قد تتوقّف بدون نتيجة، إلّا أن ضخّ التمويل في اللحظة الأخيرة من الولايات المتحدة أدّى إلى إنقاذها. وقد أُدين تيلور في النهاية بالمساعدة والتحريض على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سيراليون، وحُكم عليه بعد ذلك بالسجن لمدة 50 عاماً.
إن إنجازات المحكمة الخاصة بلبنان تتضاءل مُقارنةً بإنجازات المحكمة الخاصة لسيراليون، التي حاكمت العديد من الجناة البارزين وساهمت بشكل كبير في التفسير القانوني للجرائم الدولية مثل العبودية الجنسية والزواج القسري. على النقيض من ذلك، لم تتم في محكمة لبنان إدانة سوى شخصٍ واحد – عضو “حزب الله” سليم جميل عياش – بقتل الحريري، ولم تتم محاكمة أي مشتبه به شخصياً من قبل المحكمة. وبدلاً من ذلك، عقدت المحكمة الخاصة بلبنان جلساتها الأساسية وأخذت إجراءاتها غيابياً.
في حين أن عمل الموظفين في المحكمة الخاصة بلبنان كان شجاعاً، والتزامهم، رُغم الصعاب، تلقّى استحساناً مُستَحَقاً، فليس من الواضح أن هذه المحكمة كانت لها أيّ آثار إيجابية على الأرض في لبنان. من المؤكد أن المحكمة ليست من بين المحاكم التي يحتفل بها عموماً أنصار العدالة الدولية. يبدو أن القليل من الدول حريصة على المساهمة بمزيدٍ من الأموال لمؤسسةٍ ليس لديها سوى القليل لتُظهره لنفسها. وعدد قليل من الزملاء اللبنانيين الذين تحدثتُ إليهم بشأن المحكمة الخاصة بلبنان سيكونون قلقين بشكل خاص إذا لم تفعل هذه الدول ذلك.
إنجازات المحكمة الخاصة بلبنان تتضاءل مُقارنةً بإنجازات المحكمة الخاصة لسيراليون، التي حاكمت العديد من الجناة البارزين وساهمت بشكل كبير في التفسير القانوني للجرائم الدولية مثل العبودية الجنسية والزواج القسري
لكن على الدول أن تأخذ الأمور بحذرٍ خشية أن يُشكّل انهيار المحكمة بسبب التمويل سابقة. هذا صحيح بشكل خاص الآن، خلال جائحة فيروس كورونا. لقد أنفقت الدول تريليونات الدولارات على حماية بلدانها ومواطنيها من كوفيد-19 وتداعياته الاقتصادية الحادة. يجب تغطية العجز الهائل من طريق خفض الإنفاق. وقد أعلنت المملكة المتحدة عن خفضٍ من 0.7 إلى 0.5 في المئة من دخلها القومي العالمي المُخصّص للمساعدات الخارجية، في حين قال ديبلوماسيون كنديون -الذين ضغطوا أصلاً على المحكمة الجنائية الدولية لخفض موازنتها- إنه سيكون هناك ضغطٌ نزولي على تمويل المحكمة الجنائية الدولية.
هناك اعتقاد خاطئ شائع بأن العدالة الجنائية الدولية هي مشروعٌ مُكلف. بالنسبة إلى ما تحاول تحقيقه، فهو ليس سوى شيء قليل. على سبيل المثال، بلغت موازنة المحكمة الجنائية الدولية، التي تُمَوَّل من الاشتراكات المُقدَّرة من الدول الأعضاء، حوالي 175 مليون دولار في العام 2020. وقد تجاوزت رواتب فريق “نيويورك يانكيز” الرياضي للبيسبول هذا العام 200 مليون دولار. كما وجدت دراسة أجراها مشروع تكاليف الحرب في جامعة براون أن الولايات المتحدة أنفقت أكثر من 2 تريليوني دولار على مدار 16 عاماً على الحرب في العراق. وهذا يعني أن الموازنة السنوية الكاملة للمحكمة الجنائية الدولية بالكاد تكاد تكون نصف تكلفة يوم واحد من النفقات العسكرية الأميركية خلال تلك الفترة.
إن تفويض المحكمة واسع النطاق، وهو تحديداً معالجة الجرائم الدولية المُرتكبة في حالات متعددة في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، تتوق الدول في كثير من الأحيان إلى تقويض المؤسسة، وممارسة الضغط على المحكمة لتحقيق عدالة ذات مغزى ولكن بموارد مالية محدودة للقيام بذلك. ومما زاد الطين بلة، عندما أحال مجلس الأمن الدولي القضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية – كما فعل في دارفور في 2005 وليبيا في 2011 – رفض المجلس تخصيص أي أموال من الأمم المتحدة لتحقيقات المحكمة اللاحقة. يبدو أن بعض الدول سعيدة بفرض العمل على المحاكم الدولية ولكنها تتعثّر في دعمها بالالتزامات المالية.
إن القول بأن تكلفة المحكمة لا تُكلّف الكثير من الناحية النسبية لا يعني أن كل نفقات المحكمة تستحق العناء. كبيروقراطيات، غالباً ما تدفع المحاكم رواتب عالية جداً للموظفين الذين يساهمون بشكل ضئيل. ومن المشروع بالمثل القلق بشأن مقدار ما تُحققه المحاكم من حيث المُساءلة مع الموازنات التي لديها. لكن تقويض موارد المحاكم يُمكن أن يجعلها عاجزة عن معالجة الجرائم الدولية والعنف السياسي، وهو وضعٌ قد يُكلّف الدول أكثر في المدى الطويل.
إذا توقّفت المحكمة الخاصة بلبنان عن العمل لأن الدول لن تدفع الموارد التي تحتاجها لإكمال عملها، فلن تكون المحكمة الخاصة بلبنان هي التي تعاني فقط. يُمكن أن يمنح ذلك الدول إذناً أكبر للسيطرة على المحاكم وسحقها من خلال التعاقد وقطع قيودها المالية.
– مارك كيرستن هو خبير في القانون الدولي ومستشار في مؤسسة “وايامو” (Wayamo). يمكن متابعته عبر تويتر على: @MarkKersten
– كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
*نقلاً عن موقع أسواق العرب