مع تكليف نجيب ميقاتي تشكيل حكومة يتشكّل مشهدٌ سياسيٌّ جديدٌ في لبنان، ولا سيّما أنّ هذا التكليف مفتوحٌ على تأليف سريع للحكومة قد لا يستغرق أكثر من أيامٍ معدودة. وإذا استطال أكثر فهو لن يتجاوز أسابيع قليلة، وإلّا فإنّ ميقاتي سيكون مضطراً إلى الاعتذار، لأنّ نجاح حكومته وقدرتها على الحكم باتا مرتبطين بسرعة تأليفها. فإذا تأخّر هذا التأليف، بسبب الخلاف على الحصص، فسيكون ذلك إشارة إلى أنّ الحكومة العتيدة ستولد مشلولة، وأنّها ستكون عاجزة عن تلبية المطلوب منها داخلياً وخارجياً، ولا سيّما أنّ هذه الحكومة محكومة بتوقيتيْن: توقيت الانهيار المتسارع، وتوقيت الانتخابات النيابية المزمعة في الربيع المقبل. فكلّما تفاقم الانهيار صعبت مهمّة الحكومة أكثر، وكلّما دنونا من موعد الانتخابات اختلطت وظائفها وارتبكت بين معالجة الأزمة الاقتصادية والمعيشية وبين الإعداد والإشراف على الانتخابات.
أيّ حكومة برئاسة الحريري ستكون حكومة ربط نزاع، أي ستبقي الحريري طرفاً رئيساً في المعادلة الحكومية والسياسية لا يمكن للحزب ضبط حركته السياسية تماماً وفق أجندته، أياً يكن استعداد رئيس “المستقبل” للتبريد مع الحزب
المناخ السياسي، الذي رافق تكليف ميقاتي، يحفّز على إزاحة فرضية استطالة التأليف والبناء على سرعته. وفي هذا السياق، يطرح الانقلاب المفاجئ والسريع من التشاؤم إلى التفاؤل في مسار تأليف الحكومة سؤالاً رئيساً: هل تكليف الرئيس سعد الحريري كان حائلاً دون إمكان تأليف الحكومة؟
فما إن اعتذر الحريري وكُلِّف ميقاتي حتّى وُلد مسار حكومي جديد يتّسم بـ”الإيجابية”، إذا ما استخدمنا الكلمة المفتاح في تصريح النائب محمد رعد في أعقاب تسمية كتلة الوفاء للمقاومة لميقاتي. وهي تسمية لها دلالات سياسية مهمّة، إذ تؤكّد رغبة الحزب في تشكيل حكومة. والأهمّ أنّ هذه التسمية تعبّر عن ثقة الحزب بميقاتي، وتعويله عليه وعلى حكومته لبناء توازنات سياسيّة جديدة في البلد.
الإجابة على السؤال الآنف تقتضي أوّلاً الانطلاق من مآل المعادلة السياسية التي أفرزتها تسوية عام 2016، وقوامها ثنائية سعد الحريري – جبران باسيل. لم يغفر العهد والتيار الوطني الحر للحريري استقالته في أعقاب انتفاضة 17 تشرين 2019، إذ عدّاها انقلاباً عليهما، وبدا خروج الحريري من الحكم انكشافاً سياسيّاً لباسيل الذي توجّهت الانتفاضة بوضوح ضدّه.
لذلك كان تصرّف العهد والتيار مع الحريري طوال الأشهر التسعة الماضية، أي مدّة تكليفه تشكيل حكومة، يعكس رغبتهما في الانتقام منه، من خلال عرقلة تشكيله لحكومة، إلّا إذا أظهر تأليفها انتصارهما عليه، وهو ما لم يرتضِه الحريري، فما كان منه إلّا أن اعتذر في نهاية الأمر.
وضع التيار والعهد، منذ تكليف الحريري، معادلة واضحة قوامها: إذا انتصر الحريري خسر باسيل، وإذا خسر الحريري فاز باسيل. وهذه معادلة كانت مانعة بقوّة لتأليف الحكومة، خصوصاً أنّ حزب الله لم يُرِد كسرها. فالحزب، وإن كان قد استثمر إلى أقصى حدّ في ربط النزاع مع الحريري، إلّا أنّه يعي أنّ علاقته مع الحريري محكومة، لأسباب داخلية وخارجية، بربط النزاع هذا، أي محكومة بتناقضها الداخلي، ولا يمكن تطويرها إلى أكثر من ربط نزاع.
لذلك كانت أيّ حكومة برئاسة الحريري ستكون حكومة ربط نزاع، أي ستبقي الحريري طرفاً رئيساً في المعادلة الحكومية والسياسية لا يمكن للحزب ضبط حركته السياسية تماماً وفق أجندته، أياً يكن استعداد رئيس “المستقبل” للتبريد مع الحزب. وقد جرّب ذلك في خريف 2019، إذ كان الحزب راغباً في الإبقاء على الستاتيكو القائم، بيد أنّ الحريري أسقطه باستقالته من رئاسة الحكومة.
إذّاك عجز الحريري عن تأليف الحكومة لسببين رئيسين متداخلين: الأوّل هو محاولة العهد وباسيل كسره سياسياً، والثاني أنّ الحزب حليفهما لم يشأ الضغط عليهما، أوّلاً لأنّه لم يكن مستعجلاً تشكيل الحكومة لأسباب متّصلة بأولويّاته الإقليمية في ظلّ مسار التفاوض – المواجهة بين إيران والولايات المتحدة، وثانياً لأنّه يعي حدود علاقته مع الحريري، وهو غير مستعدّ لتجازوها، وإلّا أخلّ بموازين القوى الداخلية بعدما استقتل لإرسائها.
كان تصرّف العهد والتيار مع الحريري طوال الأشهر التسعة الماضية، أي مدّة تكليفه تشكيل حكومة، يعكس رغبتهما في الانتقام منه، من خلال عرقلة تشكيله لحكومة، إلّا إذا أظهر تأليفها انتصارهما عليه، وهو ما لم يرتضِه الحريري، فما كان منه إلّا أن اعتذر
تكليف ميقاتي أسقط كلّ هذا المشهد المعقّد، ورسم مساراً سياسياً جديداً يرتكز على معطييْن رئيسين متداخلين: الأوّل أنّ اعتذار الحريري أسقط معادلة الحريري – باسيل الحكومية، بمعنى أنّ خروج الحريري من حلبة الصراع الحكومي أسقط حجّة باسيل للمناورة والعرقلة ما دام غريمه أصبح خارج الحلبة، فيُفترض به هو أيضاً أن يجلس على مقاعد الاحتياط. هذا لا يعني أنّه لن يكون لكليهما، ولا سيّما باسيل، تأثير في تأليف الحكومة، لكنّ الصراع بينهما لم يَعُد مباشراً.
أمّا المعطى الثاني فهو أنّ “حزب الله” تحرّر باعتذار الحريري من إشكالية المؤالفة بين مصلحته في التبريد مع الحريري وأولويّته في الحفاظ على تحالفه مع العهد والتيار. مع تكليف ميقاتي سقط هذا الاعتبار بالنسبة إلى الحزب. لكنّ الأهمّ أن “ابتعاد” الحريري معطوفٌ على بلوغ الانهيار الاقتصادي عتبات خطيرة لم يعد الحزب بمنأى عن ارتداداتها، حفّز الحزب على التقدّم خطوة إلى الأمام في عملية تأليف الحكومة وصولاً إلى الدفع بقوّة نحو إبصارها النور.
وفي المحصّلة، يرغب الحزب في تشكيل حكومة في أسرع وقت، وميقاتي لم يكن ليقبل التكليف لو لم يكن يعلمُ ذلك. فحتّى حديثه عن “الضمانات الدولية” لتأليف الحكومة يأتي، بالنسبة إليه، في مرتبة ثانية بعد ضمانة الحزب لتأليفها.
لكن، في المقابل، تكليف ميقاتي بالذات، لا سواه، يُعدّ عاملاً رئيساً بالنسبة إلى الحزب لتعديل استراتيجيّته الحكومية من عدم استعجاله التأليف إلى استعجاله.
في هذا الإطار، لا يقيم الحزب حسابات متّصلة بالملف الحكومي حصراً، بل بكامل المشهد السياسي خلال المرحلة المقبلة. فميقاتي هو “غير” الحريري، ولو كان الأخير قد وفّر له غطاءً سنّيّاً بخلاف ما حصل يوم تكليفه تشكيل حكومته الثانية في كانون الثاني 2011. فالحزب خَبِر ميقاتي الذي كان جاهزاً بقوّة لاستكمال الانقلاب على الحريري في عام 2011. وهذه محطّة لم ينسَها لا الحزب ولا الحريري. وهي محطّة مؤثّرة في علاقة ميقاتي مع دول عربية رئيسة معنيّة بالملف اللبناني. فمهما تحدّث ميقاتي عن حسن علاقاته العربية، فإنّ ثمّة حاجة دائمة إلى برهان عمليّ على ذلك. وهذه نقطة رئيسة للحزب أيضاً. فأياً تكن طبيعة علاقات الحريري العربية، فإنّ ميقاتي لا يمكنه تضخيم “خلفيّته العربية”.
لهذا يستطيع الحزب في ظلّ موازين القوى الحالية، وبناءً على تجربته مع ميقاتي، وبالنظر أيضاً إلى بروفايل الأخير، أن يعتبر الحكومة العتيدة فوزاً صافياً له، وهو ما لم يكن متاحاً له لو شكّل الحريري الحكومة، حتّى لو نال الحزب وحلفاؤه فيها حصّة الأسد. وهكذا سيعتبر الحزب أيّ نجاحات لحكومة ميقاتي، في كبح الانهيار وتحسين الظروف المعيشية للّبنانيين، نجاحاتٍ له، وسيقدّمها لجمهوره واللبنانيين على هذا الأساس، فيما لم يكن في مقدوره فعل ذلك في أيّ حكومة يرأسها الحريري، إذ إنّ الأخير قادرٌ على الاستحواذ على الوهج الرئيس لهذه النجاحات.
إقرأ أيضاً: باسيل يتجرّع كأس ميقاتي “الفاسد”؟
لذلك كلّه يبدو الحزب متحفّزاً لتشكيل “الحكومة الميقاتية” التي ستكون مدخلاً لبناء توازنات سياسية جديدة في البلد، قد يكون أولى ضحاياها الحريري نفسه: أوّلاً لأنّ تجربة ميقاتي لا تضمن ولاءً مطلقاً للحريرية السياسيّة، وثانياً لأنّ الحزب سينحاز أكثر صوب العهد والتيار، وخصوصاً على أعتاب الانتخابات النيابية، هذا إذا حصلت في موعدها.
والمفارقة أنّ تكليف ميقاتي تشكيل حكومة في كانون الثاني 2011 كان بعد أشهر قليلة على اندلاع الثورة التونسية التي بشّرت بسقوط الستاتيكو الإقليمي الذي كان قد اهتزّ أصلاً بعد غزو العراق، وقبل بضعة أسابيع على اندلاع الثورة السورية التي كرّست تطوّراتها هذا السقوط. الآن يأتي تكليف ميقاتي بعد انطلاق مسار سياسي جديد في تونس عنوانه طيّ صفحة حكم الإخوان المسلمين فيها. وهذا قد يكون مؤشّراً إلى مرحلة جديدة في المنطقة لن يبقى لبنان خارجها حكماً.
وإنّ غداً لناظره قريب.