ميقاتي فرصة عون الأخيرة؟!

مدة القراءة 7 د

كتبت هذه المقالة ثلاث مرّات خلال أربعة أيام. والصيغة الأخيرة هذه كُتِبت بعد حصول الرئيس نجيب ميقاتي على الأكثرية في الاستشارات المُلزِمة. كانت تحكمني عدّة اعتبارات وعوامل مشتبكة ومتشابكة أحياناً:

الاعتبار الأوّل: حاجة لبنان الوجودية إلى حكومة، وأحياناً كنت أقول لنفسي ومحاوريّ: أيّ حكومة! فالبلاد في قاعٍ لا قاع تحته. وقد عجز العونيون وحزب الله بعد قرابة العامين عن إحقاق استراتيجيّتهم البديلة للبنان، بدءاً بتغيير الهويّة والانتماء وتغيير الدستور، وانتهاءً بأصغر الصغائر في أيّ بلدٍ في العالم، مثل توفير المحروقات والأدوية والأغذية. ولذلك صارت الحكومة، التي يرئسُها سنّيّ، ليست ضرورةً من أجل الغذاء والدواء والحاجات الحياتية الأساسية فقط، بل هي دليلٌ على استمرار النظام والدستور اللذين نجح العونيون والحزب المسلَّح في تكريه سائر اللبنانيين بهما، كأنّما هما سبب البلاء النازل باللبنانيين، وليس تعطيلهما القسري من جانب خصمَيْ النظام والدستور الرئيسيَّيْن.

حكومة الفرصة الأخيرة إن لم تتشكّل فينبغي المصير إلى المطالبة بإقالة رئيس الجمهورية أو استقالته، ولو في الشارع. لا نستطيع انتظار الانتخابات ونهاية فترة الرئيس، فالبلاد لا تتحمّل هذين الانتظاريْن

– الاعتبار الثاني: عجز الطرف أو الأطراف السياسية الباقية رسميّاً مع الدستور والنظام عن المقاومة لمصلحة صيغة البلاد ونظامها، وفي طليعة تلك الأطراف الرئيس سعد الحريري. والحريري هو بالطبع جزء أساسي في التركيبة السياسية القائمة، التي يهيمن عليها الحزب المسلَّح. لقد أعاد ترميم زعامته في النظام والتركيبة بالتحالف مع عون والحزب المسلَّح. إنّما عندما بدأ الانهيار حاول التمايز، سواء باستقالته بعد الثورة، أو بصموده في مناقرة عون وباسيل لقرابة الأشهر التسعة. لكنّ فشله واستسلامه في النهاية ألقيا بظلالهما على رئاسة الحكومة ذاتها، وهي السلطة التنفيذية في البلاد. لقد ضعفت رئاسة الحكومة، وضعُف دور السنّة وكلّ القوى التي تريد الحفاظ على الدولة والدستور والعيش المشترك. استطاع عون والحزب المسلَّح استهلاك ثلاثة رؤساء للحكومة خلال عامٍ ونصف. ولذلك مرّةً ثانيةً صار لا بُدَّ من إيجاد حكومة للحاجات الوطنية المتّصلة ببقاء الدولة والنظام من جهة، والمتّصلة بنظام العيش، والمتّصلة أخيراً بحقّ أهل السُنّة، وهم ثلث الشعب اللبناني، في الشراكة الوطنية. وقد قلت عدّة مرّاتٍ في كتاباتي خلال عام: ما انتهت الدنيا، فلنخرج من إسار سعد الحريري وتكتيكاته لمصلحة شخصيّةٍ أو شخصيّات من خارج التركيبة أو من خارج منظومة الفساد والمماحكات. بيد أنّ الإمكانات والخيارات المتاحة كانت ولا تزال محدودة بسبب شراسة الاستيلاءَيْن من جانب الحزب المسلَّح، ومن جانب عون وصهره، ثمّ بسبب أنّ مقاومة الاستيلاءيْن ظلّت ضعيفةً في أوساط السنّة، وفي الأوساط الوطنية العامّة.

 – الاعتبار الثالث: عندما اعتذر الرئيس المكلَّف سعد الحريري بهذه الطريقة المخزية، استولى عليّ من جديد وعي الضرورة: ضرورة التغيير، وتطلّعت، كما من قبل، لآخرين مثل الدكتور نوّاف سلام. لكنّني كنت أعرف أنّ حظوظه ضئيلة، ليس لأنّ الثنائي الشيعي ضدّه، بل لأنّه من خارج التركيبة السياسية السنّيّة والأخرى الوطنية. وسيتعاون الجميع ضدّه، كما من قبل، وإن زعم بعضهم المحبّة له وتفضيله. أَوَلم نَرَ ماذا فعلوا مع مصطفى أديب، بل حتى مع حسّان دياب؟! لذلك لم أُفاجأ عندما صعدتْ خلال أيّامٍ قليلةٍ أسهُم الرئيس نجيب ميقاتي، ليُكلَّف برئاسة الحكومة للمرّة الثالثة: 2005، 2011، و2021. وهذه المرّة بإجماع السُنّة والشيعة والدروز على تسميته في الاستشارات. إنّما الأكثر دلالة في هذا التطوّر المفاجئ أنّ ترشيحه جاء هذه المرّة أيضاً من بيت الوسط (دارة الرئيس الحريري). وهكذا ضعفت الآمال في الخروج من الإسار، ومن التجربة التي ثبت فشلها قبل عام 2016 وبعده.

الاعتبار الرابع: وهو الذي يبدو فيه الاشتباك بعد التشابك في العوامل الأُخرى. كلّنا نعرف تجربة الرئيس ميقاتي السياسية الطويلة منذ التسعينيات. لكنّني، بهذه المعرفة أو على الرغم منها، أدعو إلى إعطائه فرصة، لحاجة البلاد إلى حكومة، ولحاجة السنّة إلى ممارسة دورهم في المشاركة، ولحاجتنا إلى مخاطبة المجتمعيْن العربي والدولي من أجل الإنقاذ، وأخيراً لأنّ النظام الدستوري للبلاد مهدَّدٌ إن استمرّت المراوحة وسط تفاقُم الانهيار، واعتماد عون على مجلس الدفاع الأعلى بدلاً من الحكومة.

لم يصوِّتْ لميقاتي في الاستشارات الفريقان المسيحيان الرئيسيان في البلاد: كتلة التيار الوطني الحر، وكتلة القوات اللبنانية. وهذا افتراق غير محمود، وله دلالاته

– الاعتبار الخامس: وهو الأمر الذي يدعو للتأمّل. لم يصوِّتْ لميقاتي في الاستشارات الفريقان المسيحيان الرئيسيان في البلاد: كتلة التيار الوطني الحر، وكتلة القوات اللبنانية. وهذا افتراق غير محمود، وله دلالاته. فالفريقان مختلفان فيما بينهما، وليسا مشهوريْن بالولاء للطائف والدستور. أمّا الجهات (المدنية) الصاعدة عند المسيحيين فأكثر بُعْداً عن الدستور ونظام البلاد. والأفظع من ذلك أمل الجميع في أوساط المسيحيين بتغيير النظام من خلال الفوز في الانتخابات القادمة. ولم أَرَ بلداً في المشرق غيّرت فيه الانتخابات النظام إلى الأفضل.

 – الاعتبار السادس: لبنان بدون غطاء عربي أو دولي بسبب تصرّفات وسياسات عون والحزب المسلَّح. وما استطعنا نحن المعارضين تشكيل جبهة وطنية لاستعادة العلاقات مع العرب والعالم. وفي إقامة حكومة ميقاتي الجديدة بهذه الطريقة، ثبت أنّ التركيبة لا تزال قوية حتى لو انقسمت بين مسلم ومسيحي. اليأس غير وارد بسبب مصائر البلاد المهدَّدة. إنّما تبقى الجبهة الوطنية هي التحدي الأكبر الذي يواجهنا، فلا بدّ من الاتفاق على الأساسيات وبلورتها عمليّاً في برنامج مرحليّ لتجاوز التركيبة من دون إخلالٍ بشرعيّات لبنان ونظامه الدستوري.

الجبهة الوطنية ضرورة قصوى للحفاظ على الدولة والنظام والدستور والعيش المشترك. لكنّ المتطلّبات كثيرة وكبيرة. وهي تبدأ بإعادة تكوين الدور السنّيّ، باعتبار أهل السُنّة هم اللحمة الوطنية التي ما عادت قيادتها قادرةً على التغيير. لا بدّ من الخروج من مآلات الحريرية السياسية إلى أصول ومهامّ الحريرية الوطنية. ولا بدّ لأهل الحريرية الوطنية، وهم يعيدون تشكيل الحريرية السياسية الجديدة، من التواصل مع القوى المسيحية الجديدة، والأخرى التي كانت في 14 آذار. ولا بدّ من التواصل مع القوى الشيعية الجديدة. وفي الحالتين يكون التواصل على أساس الثوابت الوطنية. ولكي لا تطول المسألة نبدأ بالتفاوض في نقاط البرنامج المرحلي.

 – الاعتبار السابع والأخير: أنا، كما سبق القول، مع إعطاء حكومة ميقاتي فرصة، وهي قد تكون فرصة النظام المتهالك الأخيرة، مع أنّني لا أعرف مدى حظوظ الرئيس المكلّف في تشكيل حكومة قادرة، ومدى استطاعة الحكومة إذا تشكّلت وقف الانهيار، والذهاب إلى صندوق النقد الدولي، واستعادة علاقات لبنان بأشقّائه العرب. كلّها مهمّات صعبة وصعبة جداً، وبخاصّةٍ أنّ المؤسسات والبلدان التي ينبغي الذهاب إليها ليست جهات خيريّة ولا ساذجة، وما عاد عندها أوهام، لا في الحزب المسلّح ولا في التركيبة:

 تكاثرت الظباء على خراشٍ     

 فما يدري خراشٌ ما يصيدُ

إقرأ أيضاً: هل فَقَد الرئيس ميقاتي عقله؟

حكومة الفرصة الأخيرة إن لم تتشكّل فينبغي المصير إلى المطالبة بإقالة رئيس الجمهورية أو استقالته، ولو في الشارع. لا نستطيع انتظار الانتخابات ونهاية فترة الرئيس، فالبلاد لا تتحمّل هذين الانتظاريْن. فليبدأ الحديث الآن، لأنّه ما كان جائزاً المجيء به رئيساً حرصاً على السلام الوطني والنظام الدستوري، والآن ينبغي أن يكون عزله تصحيحاً للخطأ والخطيئة، وتفكيراً بالمستقبل الوطني للبلاد.

مواضيع ذات صلة

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…

لماذا أعلنت إسرائيل الحرب على البابا فرنسيس؟

أطلقت إسرائيل حملة إعلامية على نطاق عالمي ضدّ البابا فرنسيس. تقوم الحملة على اتّهام البابا باللاساميّة وبالخروج عن المبادئ التي أقرّها المجمع الفاتيكاني الثاني في…

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…