في كتاب “حارس الجمهورية”، وهي سيرة حياة المرجع الدستوري الكبير حسن الرفاعي، وتحت عنوان “رشيد كرامي لحافظ الأسد: “لبنان آخر دولة عربية تنضمّ إلى الوحدة”، جاء في الصفحة 113 من الكتاب: “قاد الفريق حافظ الأسد “حركة تصحيحية” في سوريا أوصلته إلى الحكم عام 1971. على الأثر زاره وفد من “الجبهة الديموقراطية النيابية” الشهابية لتهنئته. وقد ضمّ الوفد الرئيس رشيد كرامي، وخليل بشارة الخوري (نجل أوّل رئيس جمهورية للبنان بعد الاستقلال عام 1943)، وجوزيف أبو خاطر، ورينيه معوّض (الذي اُنتُخب رئيساً للجمهورية عام 1989 بعد مؤتمر الطائف، وقُتل بانفجار في 22 تشرين الثاني من العام نفسه بعد عدّة أسابيع من انتخابه)، وقبلان عيسى الخوري، والرفاعي”.
خرج الرئيس سعد الحريري معتذراً عن عدم تشكيل الحكومة الجديدة. وقد أحدث خروجه دويّاً. لكنّه لم يكن دويّاً بحجم معنى فشل الركن الثالث في الحكم، والطائفة التي يمثّل، أي السُنّة
يروي الرفاعي أنّ أوّل المتكلّمين في اللقاء كان خليل الخوري، فخاطب الأسد: “نحن، يا سيادة الرئيس، من أصل عربي. ووالدي كان من مؤيّدي الوحدة العربية التي نريدها أن تتمّ اليوم قبل الغد”. ثمّ تبعه في الكلام أبو خاطر، فقال: “أنا مولود في سوريا، يا سيادة الرئيس”، وكان يقصد بقوله أنّه من البقاع، أي من الأقضية الأربعة التي سلخها الانتداب الفرنسي عن سوريا الطبيعية، وضمّها إلى لبنان الكبير عام 1920. عندها التفت الأسد بنباهته المعهودة إلى كرامي الذي كان صامتاً في تلك الجلسة، وسأله: “لم نسمع رأيك يا دولة الرئيس”، فأجابه كرامي: “نحن في بلد ينتمي إلى الجامعة العربية ومواثيقها التي تنصّ على المحافظة على استقلال كلّ بلد. نحن من طلاب الوحدة العربية، لكن بعد أن يسود جميع الدول العربية نظام ديموقراطي مثل نظام لبنان على أن يبقى لبنان آخر دولة عربية تنضمّ إلى كيان الوحدة العربية”. على أثر ذلك، سأل الرفاعي زميليْه رينيه معوّض وقبلان عيسى الخوري: “بالله عليكما، مَن هو الأكثر حرصاً على استقلال لبنان؟”. ويقول الرفاعي لكاتب سيرته إنّه روى مجريات اللقاء بحرفيّته في أكثر من مناسبة، ومنها خلال محاضرة له عن الطائف في “ندوة العمل الوطني،” وفي محاضرة له مع إيلي سالم وزير الخارجية اللبناني في عهد الرئيس أمين الجميل، بدعوة من نادي “الروتاري” في طرابلس عام 1994.
لنعد إلى الحاضر:
خرج الرئيس سعد الحريري معتذراً عن عدم تشكيل الحكومة الجديدة. وقد أحدث خروجه دويّاً. لكنّه لم يكن دويّاً بحجم معنى فشل الركن الثالث في الحكم، والطائفة التي يمثّل، أي السُنّة.
هل صار مقبولاً أن يتساقط ممثّلو الطائفة السنّيّة الواحد تلو الآخر، فيما يبقى ثابتاً في موقعه لا يتزحزح كلّ من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، وما يمثّل كلّ منهما، سواء أكانت الطائفة المارونية أم الطائفة الشيعية؟
يرحل الحريري ويأتي غيره غداً، لكنّ المطلوب هو عدم السماح لِمَن يمثِّل السنّة أن تكون ممارسته السياسية على قدر حجمها في الكيان، وهذا قد يقود إلى الاحتمالات الخطرة التي دمّرت سوريا
ما سيلي هذا السؤال ليس متّصلاً بـ”نظرية المؤامرة”، بل إنّه متّصل بـ”المخطّط” الذي لا يزال يدكّ معوله في رأس هرم الكيان منذ عقود، وهو اليوم في ذروة جديدة غير مسبوقة. وقبل الخوض في هذا “المخطّط”، لا بدّ من السؤال عن الهدوء الذي خيّم على مَن يُفترض بهم الحياد ضمن الركنيْن الثابتيْن، الماروني والشيعي، وهما البطريرك الراعي والرئيس نبيه بري؟
أمّا الأوّل، أي البطريرك الماروني، فقد خرج في عظة الأحد قبل الاعتذار ببدعة محدوديّة زمن تكليف رئيس الحكومة المكلّف، وحاول تطريتها بمحدوديّة زمن رفض التشكيلات من قبل رئيس الجمهورية. فأين هو اليوم وقد أصبح الأخير يتربّع سعيداً فوق السلطة التنفيذية بعد شطبه من المعادلة رئيس أكبر كتلة برلمانية في الطائفة الركن الثالث في الكيان؟
ما حصل قد حصل، وما يفيد هو مواكبة ما بعد هذا الفصل من “مخطّطٍ” يستهدف طائفة بكاملها ليست متميّزة عدديّاً، بحسب آخر إحصاءات لعدد الناخبين في سجلّات آخر انتخابات نيابية جرت عام 2018، فحسب، بل وهي مميّزة ببعدها العربي والإسلامي الذي لا تضاهيها فيه أيّ طائفة أخرى في الكيان، وهنا بيت القصيد.
فات الرفاعي التأكيد أنّ مواقف الرئيس رشيد كرامي كانت على امتداد حياته السياسية صلبة في لبنانيّتها وعروبيّتها، وليس أقلّها تغيّبه المتعمّد عن المشاركة في المحادثات المتعلّقة باتفاق القاهرة عام 1969، حتى لا يضطرّ إلى توقيعها، وموقفه الرافض للاتفاق اللبناني – الإسرائيلي عام 1983.
بالعودة إلى الوراء بضعة أعوام، وتحديداً عام 2015، تتسنّى قراءة المشهد الكبير الذي ارتسم في سوريا، وامتدّت مفاعيله إلى لبنان. في ذلك العام، طار من طهران إلى موسكو قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، ممثّلاً المرشد علي خامنئي، حاملاً رسالته إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفحواها طلب عاجل من القيادة الإيرانية إلى القيادة الروسية كي تتدخّل في سوريا حمايةً لنظام الرئيس السوري بشار الأسد الذي كان على وشك الانهيار هو وداعمه الإيراني بكلّ ميليشياته، وفي مقدّمها “حزب الله”. وقتذاك قَبِل سيد الكرملين عرض المرشد الإيراني، وأعقب ذلك وصولُ النجدة الروسية التي قلبت موازين القوى رأساً على عقب. فعاد الزمام إلى نظام الأسد وحلفائه، وفلت من يد الثورة السورية العارمة التي انهزمت، وقُتل مئات الألوف وشُرِّد الملايين من الطائفة السنّيّة.
إقرأ أيضاً: لبنان يدفع ثمن قيام “عهد حزب الله”
ما فعله الإيراني من إشراك الروسي في إخضاع سوريا لنفوذ غير أهلها، يفعله اليوم ميشال عون في بيعه لبنان للنفوذ الإيراني ممثَّلاً بـ”حزب الله”. والأخير هو الممثِّل الشرعي لتشتيت الواقع السنّيّ على مستوى الحكم، ولا سيّما رئاسة الحكومة.
أبدى الحريري بعد اعتذاره “عتبه” على “حزب الله”.
كم بدا العتب بارداً في مواجهة المخطّط الذي يقوده الحزب.
يرحل الحريري ويأتي غيره غداً، لكنّ المطلوب هو عدم السماح لِمَن يمثِّل السنّة أن تكون ممارسته السياسية على قدر حجمها في الكيان، وهذا قد يقود إلى الاحتمالات الخطرة التي دمّرت سوريا.