أوجز الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حصيلة دروس المحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت مساء 15 تموز 2016 بقوله: “دخلت هذه المحاولة، التي انتهت صباح اليوم، تاريخنا كوثيقة تُستخلَص منها العبر عبر الأجيال بعدما سحقتها الأمّة تحت الأقدام.. كل فرد من أفراد أمّتنا سيتمسّك أكثر باستقلالنا ومستقبلنا عندما يتذكّرون هذه الخيانة غير المسبوقة”.
لا خلاف على أنّ ما جرى ليلة منتصف تموز قبل 5 أعوام كان حدثاً استثنائياً في تاريخ تركيا المعاصر، وفتح الأبواب على وسعها أمام جملة من المتغيّرات السياسية والدستورية والاجتماعية التي لعبت دوراً أساسياً في إيصال البلاد إلى ما هي عليه اليوم.
إذا ما بقيت الانتخابات التركية على موعدها المعلن بعد عامين مع وجود احتمال الذهاب المبكر إلى الصناديق، فإن “العدالة والتنمية” سيكون أمام خيار لا بديل له، وهو القيام بورشة عمل سياسية ودستورية واقتصادية شاملة لاسترداد زمام المبادرة بمفرده
الشقّ الذي تبرزه القوى المقرّبة من حزب العدالة والتنمية هو ولادة “يوم الديموقراطية والوحدة الوطنية”، تاريخ الذكرى الخامسة للمحاولة الانقلابية التي نفّذَتها عناصر داخل المؤسسة العسكرية محسوبة على حركة فتح الله غولن، وأودت بحياة 250 مواطناً تركيّاً حاولوا التصدّي للانقلابيين الذين خرجوا من بعض الثكنات للسيطرة على جسريْ اسطنبول المعلّقيْن والمباني الحكومية، وإعطاء الأوامر للمقاتلات بمهاجمة محيط القصر الرئاسي ووزارة الدفاع ومبنى البرلمان في العاصمة أنقرة، وإذاعة البيان رقم 1 تحت التهديد والوعيد.
ما قلب الأمور رأساً على عقب كان رسالة صوتية أرسلها الرئيس إردوغان، الذي تمكّن في اللحظة المناسبة من مغادرة الفندق حيث كان يُمضي مع أسرته عطلته الصيفية في منطقة بحر إيجه، ودعا المواطنين للخروج من منازلهم للتعبير عن رفضهم محاولة إسقاط الديموقراطية بقوّة السلاح ومواجهة مجموعات احتمت بالغطاء الديني، وتوغّلت داخل مؤسسات الدولة، وتريد الهيمنة على إدارة شؤون البلاد.
في المقابل هناك الرواية التي تردّدها المعارضة، والتي تركّز على وقوف جميع شرائح المجتمع صفّاً واحداً في مواجهة المحاولة، لكنّها تنتقد مسار الأمور بعد ذلك، وتُبرز الأخطاء التي اُرتُكبت، ومحاولة استغلال ما جرى سياسياً ودستورياً من خلال إعلان حالة الطوارىء في البلاد لأشهر طويلة، وحملات الاعتقال والتوقيف التي طالت الكثير من الأبرياء، وما أعقبها من قرارات خاطئة بحقّ المئات من الموظفين، إمّا بتهمة المشاركة في المحاولة أو الالتصاق بجماعات غولن وفكرها.
بعد مرور 5 سنوات على ما جرى، تتّضح بعض الحقائق التي لا يمكن إغفالها:
– المسألة لم تكن محاولة انقلابية تنفّذها المؤسسة العسكرية التركية أو تلوّح بتنفيذها كما فعلت 4 مرات في السابق، بل محاولة جماعة فتح الله غولن، التي أصبح اسمها “الكيان الموازي” لاحقاً، التلطّي وراء المؤسسة العسكرية واستغلال موقعها لإسقاط حكومة العدالة والتنمية. ما الذي كانت تفعله قيادات مدنية محسوبة على الكيان الموازي داخل الثكنات العسكرية لحظة المحاولة؟ ولماذا اعتقال رئيس الأركان خلوصي آكار يومها، ومحاولة إلزامه بتوقيع البيان رقم 1، ومحاولة الإيحاء أنّه هو مَن يقف وراء ما يجري؟
يحاول البعض في تركيا أن يتمسّك بسؤال: هل انتهى زمن الانقلابات في البلاد؟ بينما السؤال الحقيقي ينبغي أن يُطرَح حول الدروس التي استخلصتها القيادات السياسية والحزبية ممّا جرى ليلة 15 تموز 2016
– اختلفت المحاولة الانقلابية الأخيرة عن غيرها من المحاولات. خطة الانقلاب أعدّتها ونفّذتها مجموعات مدنية – عسكرية تابعة لجماعة غولن كانت تتحرّك بغطاء ديني تعليمي اجتماعي، استغلّت انفتاحها على أحزاب الحكم والمعارضة في تركيا لعقود.
– لو لم يتعامل جهاز الاستخبارات التركية بجدّيّة مع أحد الضباط الذي جاء يبلغ عن تحرّكات واستعدادات مشبوهة دفعت الانقلابيين إلى تقديم ساعة الصفر إلى التاسعة مساء بدلاً من الثالثة فجراً، ولو لم يغادر الرئيس إردوغان مكان عطلته في بحر إيجه قبل دقائق فقط من وصول مجموعات الانقلابيين إلى المكان، ولو لم يوجِّه الرئيس التركي رسالته الصوتية عبر إحدى القنوات التلفزيونية الخاصة إلى المواطن التركي يدعوه فيها إلى النزول إلى الشوارع والساحات دفاعاً عن الديموقراطية، لربّما تغيّر الكثير من الأمور في تركيا.
– لو نجحت المحاولة لكانت ستبعد الكثير من الأسماء والشخصيات والأحزاب عن العمل السياسي. وكانت ستفرح العديد من العواصم التي لها حسابات لم تُصفَّ مع حزب العدالة والتنمية، وعلى رأسها واشنطن التي تريّثت لساعات طويلة قبل إدانة ما جرى، ولا تزال حتى اليوم توفّر الحماية والحصانة لقيادات وكوادر هذا التنظيم بعكس موسكو التي قيل من هناك إنّ بوتين لعب دوراً في إفشال المحاولة بتحذير إردوغان في اللحظة المناسبة.
– قبول حقيقة أنّ المحاولة الانقلابية كانت سبباً إضافياً في تسريع عمليات تطهير المؤسسات من عناصر جماعة غولن “الكيان الموازي”، لكنّ الفترة التي تلت ذلك ساهمت في فتح الطريق أمام تسريع مسار التحوّلات السياسية والدستورية، مثل تغيير شكل النظام من برلماني إلى رئاسي، واتّباع سياسة خارجية جديدة داخل دوائر العلاقات التركية مع دول العالم، وتبنّي أسلوب التدخّل المباشر والردّ الاستباقي ومحاولة التأثير الفعلي في العديد من الملفّات الإقليمية التي تعني تركيا إقليمياً ودولياً.
– يحاول البعض في تركيا أن يتمسّك بسؤال: هل انتهى زمن الانقلابات في البلاد؟ بينما السؤال الحقيقي ينبغي أن يُطرَح حول الدروس التي استخلصتها القيادات السياسية والحزبية ممّا جرى ليلة 15 تموز 2016. فهناك مَن يرى في صفوف المعارضة أنّ النقاش الحقيقي هو ليس حول وجود خطر وقوع انقلابات جديدة لأنّ المواطن قال ما عنده في مواجهة سلاح الانقلابيين، بل هو حول ارتدادات التحوّلات التي تعيشها تركيا منذ سنوات، ومدى تأثيرها على المشهد السياسي القائم.
لا خلاف على أنّ ما جرى ليلة منتصف تموز قبل 5 أعوام كان حدثاً استثنائياً في تاريخ تركيا المعاصر، وفتح الأبواب على وسعها أمام جملة من المتغيّرات السياسية والدستورية والاجتماعية التي لعبت دوراً أساسياً في إيصال البلاد إلى ما هي عليه اليوم.
أقلام وأصوات كثيرة تردّد اليوم أنّ الامتحان الذي ينتظر تحالف الجمهور الحاكم هو: ألا يزال المواطن على رأيه في قبول ودعم عشرات القرارات والتحوّلات الجذرية في مسائل حياتية أساسية اُتُّخِذت منذ عام 2016؟ ألا يزال متمسّكاً في دعم الحكم لإطلاق كل عمليات التغيير السياسي والدستوري والاقتصادي والاجتماعي التي تمّت في السنوات الأخيرة أم لا؟
– الاستنتاج الأقوى، الذي تبرزه شركات استطلاعات الرأي التركية، هو أنّ الداخل التركي لا يعترض على موضوع مطاردة عناصر “الكيان الموازي” وضرورة تصفيتها وإعادة هيكلة المؤسسات الرسمية التي توغّلت فيها، وفي مقدّمها المؤسسات العسكرية والأمنية. لكنّ النقاش المستقبلي سيتركّز على صوابية العديد من القرارات المتّخذة في مسائل جذرية تتعلّق بشكل النظام وبنيته وهيكلية عمل القضاء والمؤسسات الجامعية والقطاع الإعلامي والتحوّلات الكبيرة في شكل ونهج السياسة الخارجية التركية، وهذا ما لن يحسمه سوى الصناديق ورأي الناخب التركي بعدما تعمّقت الاصطفافات الحزبية والسياسية.
– مركزية النقاش بعد 5 سنوات على المحاولة الفاشلة تبقى، حسب إعلاميين ومحلّلين كثر داخل تركيا وخارجها، متمحورة حول سؤال: هل ما تعيشه تركيا اليوم من تحوّلات هو نتيجة المحاولة الانقلابية الفاشلة أم كانت فرصة لتبنّي قرارات وسياسات تحوّل جذري في شكل النظام والدستور وإدارة شؤون الدولة أوصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم؟
هاجس مهمّ يؤثّر في توجّه وقرار الناخب التركي اليوم وهو يقصد صندوق القتراع في أيّ انتخابات مبكرة: كيف يكون الوضع السياسي والاقتصادي إذا ما غادر حزب العدالة؟ وهل تنجح قوى المعارضة في إخراج تركيا من أزماتها؟
الاستنتاج الأقرب هو أنّه إذا ما بقيت الانتخابات التركية على موعدها المعلن بعد عامين مع وجود احتمال الذهاب المبكر إلى الصناديق، فإن “العدالة والتنمية” سيكون أمام خيار لا بديل له، وهو القيام بورشة عمل سياسية ودستورية واقتصادية شاملة لاسترداد زمام المبادرة بمفرده من دون التعويل على حليفه حزب الحركة القومية، ومحاولة قلب أرقام غالبية استطلاعات الرأي التي تتحدّث عن التغيير المؤكَّد في أقرب انتخابات تشهدها تركيا. حقيقة أخرى ترى أنّ مشكلة المعارضة في تركيا هي عدم قدرتها على إيصال حزب يحكم بمفرده، إلى جانب أنّ تحالفاتها تظل سطحية شكلية مشرذمة قابلة للتفكّك والانهيار أمام أول نسمة تهبّ.
إقرأ أيضاً: حكاية أردوغان وغولن: “حروب الأخوة الأعداء”
لن يبحث الحزب الحاكم عن سبل إخافة المواطن من احتمال وصول المعارضة إلى سدّة الحكم، بل سيحاول مواصلة سياسات التغيير والإصلاح في الكثير من الأمور الداخلية والخارجية ليستردّ ما فقده من شعبية وأصوات في العامين الأخيرين.
المواطن يعوّل أكثر على حركة تصحيحية تجديدية تغييرية في حزب العدالة.