تمكّن رئيس الجامعة الأميركية الدكتور فضلو خوري من جعل الصرح الأكاديمي الأعرق في لبنان والعالم العربي والعالم، الذي أُسِّس في عام 1866، يصمد وسط انهيار مالي واقتصادي عميق. يقول الدكتور خوري الذي عُيّن في منصبه في 2016، ومدَّد له مجلس أمناء الجامعة حتى عام 2025، بعد استمزاج آراء قرابة 75 شخصاً من أساتذة وطلاب ومتخرّجين، إنّ “صمود الجامعة في بيروت مضمون أقلّه للأعوام الثلاثة القادمة” بفضل خطة مالية وضعتها الإدارة الحالية.
قلّما رُبِطت جامعة بحراك شعبي مثلما رُبِطت الجامعة الأميركية بانتفاضة 17 تشرين الأول 2019، حيث تمكّن رئيسها بخطاب أمام الطلاب، لم يدُم أكثر من 10 دقائق، واُقتُطعت منه 3 دقائق غزت “السوشيل ميديا”، من أن يثير عاصفة من ردود الفعل المنقسمة بين إيجابية وسلبية، كما هي العادة في لبنان، لكنّها في كلّ الأحوال حرّكت المياه الراكدة في الشارع اللبناني. يبدو الطبيب والباحث في الأمراض المستعصية متعمّقاً في جذور أزمة لبنان. وهو لبنانيّ الأصل، نال الجنسية الأميركية بعد اضطرار والديه إلى السفر إلى الولايات المتحدة، حيث وُلد هناك يوم الجمعة في 13 أيلول من عام 1963. “وكانت حياتي ملأى بالحظ”، كما يقول.
يقول الدكتور خوري إنّ “صمود الجامعة في بيروت مضمون أقلّه للأعوام الثلاثة القادمة” بفضل خطة مالية وضعتها الإدارة الحالية
لم يهاجر والده رجا خوري ووالدته سمية الخوري مقدسي، لكنّ الوالد الطبيب، الذي ورث مهنة الطب عن والده أيضاً، اضطرّ إلى التنقّل بين الولايات المتحدة الأميركية ولبنان لظروف تتعلّق بدراسته والعمل، فنال فضلو الجنسية الأميركية حين كانت العائلة في الولايات المتحدة الأميركية. “ولدت في عهد فؤاد شهاب، أعظم رئيس جمهورية، ووالداي يحملان الهويّة اللبنانية. كان من حظّي نيل الجنسية الأميركية، وقد عذّبوني قليلاً في لبنان قبل منحي الهويّة اللبنانية، ولم يكن الحصول عليها سهلاً في حقبة الستينيّات”.
تردّد فضلو إلى لبنان، إذ كان والده حريصاً على تعريف عائلته على المناطق اللبنانية من الجنوب إلى الشمال، دامجاً بين ثقافتين أميركية ولبنانية. كان في الخامسة من عمره، يعيش في هامدن بكونكتيكت، في جوار جامعة يال، حين كانت الحرب الفيتنامية في أوجها. يذكر صداقاته الأولى المتنوّعة: رفيق إيرلندي أميركي، وآخر إفريقي أميركي، وثالث يهودي أميركي. وقد حافظ على هذا التنوّع في صداقاته مع مرور الزمن. منذ صفوف الحضانة تفتّح وعيه السياسي على تظاهرات طلاب يخاطبون الرئيس لندن باينس جونسون: “?Hey Hey Hey LBJ, how many kids did you kill today” (مهلاً.. مهلاً.. مهلاً.. إل بي دجي، كم من الأطفال قتلت اليوم؟).
كان فضلو خوري يجلس إلى جانب والده في المنزل، أمام شاشة تلفزيون أسود وأبيض، يشاهدان شريط أسماء مَن قضوا في الحرب، بلا أيّ صوت. “ليلة وراء ليلة كنت أشاهد كل هذه الأسماء، كان الجوّ مشحوناً، وساد الانقسام في الولايات المتحدة الأميركية، كما يحصل اليوم، لكنّ الأمور تعود إلى طبيعتها مع الرئيس جو بايدن”. اعتاد العيش في بلد منقسم. في السبعينيّات عاد إلى لبنان. “أذكر جوّ الأمان والجوّ الهادئ وجمال البلد الذي لم يكن يقطنه أكثر من مليونيْ نسمة”.
تأثّر فضلو بوالدته سمية، التي كانت قريبة من عائلتها وأصدقاء الطفولة، لناحية المسافة التي تفصلها عن الأشخاص، فاستطاعت العيش براحة أكثر من والده الأقرب إلى الناس. لكنّ تأثّره الكبير كان بشقيقه رجا الذي يقول إنّه تعلّم منه الشجاعة.
تنقّل فضلو بين لبنان، حيث كان الوالد حريصاً على تعريف عائلته على المناطق اللبنانية من الجنوب إلى الشمال، دامجاً بين ثقافتين أميركية ولبنانية
إلا أنّ زوجته اللبنانية الفلسطينية لميا طنوس يبدو أنّها تركت فيه أثراً كبيراً أيضاً: “ما إن وضعت يدها بيدي نلت أكثر ممّا أستحقّه”. الدكتور فضلو، الذي لديه 3 أولاد، يصف زوجته قائلاً: “ذكّرتني بالأمور التي لم يكن يجب أن أنساها، وبأنّه يجب النظر إلى حسنات الإنسان قبل سيّئاته. ذكّرتني دوماً بأنّ كلّ إنسان غالٍ”.
لكنّ جدّ زوجته المناضل الفلسطيني عزّت طنوس، طبيب الأطفال في فلسطين قبل عام 1948، عام النكبة، كان له الأثر الأكبر فيه. “كان يطبّب الفلسطينيين واليهود، لكنّه ترك الطبّ بعدما شهد ما حصل لشعبه، فكان أوّل ممثّل للقضية الفلسطينية في الأمم المتحدة”. يضيف الدكتور فضلو بتأثّر واضح: “هناك أناس يتذكّرهم التاريخ، لكنّهم لا يظهرون في الصورة، مثل عزّت طنوس الذي بقي إلى الستينيّات ممثّلاً للقضية الفلسطينية بواشنطن. لكنّه كطبيب كان ضدّ حمل السلاح، مع أنّه صديق ومثل أعلى لجورج حبش. ولمّا بدأ النضال الفلسطيني المسلّح تقاعد ليهتمّ بعائلته، ويكتب قصة حياته”. ويشير إلى أنّ “إدوار سعيد كان يقول عنه بأنّه من أكثر الناس الذين احترمهم في العالم”. بدوره، درّس فضلو، وهو تلميذ في الـ”آي سي”، أطفالاً فلسطينيين في المخيّمات اللبنانية، فترك ذلك أثراً فيه سيظهر أخيراً في مشاكسته الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بعد نقله سفارة بلاده إلى القدس.
تابع دراسته في الـ”آي سي” في بيروت، وبعد تخرّجه انتقل إلى الجامعة الأميركية في بيروت، حيث درس البيولوجيا وعلم النفس، ليلتحق بعدها بجامعة “يال” حيث تخصّص في البيولوجيا وعلم النفس، وفي البحوث حول مرض السرطان في جامعة “كولومبيا”. “إنّ البكالوريا التي نلتها في لبنان جعلتني أتعرّف إلى أصدقاء العمر، منهم جرّاح أعصاب الأطفال الدكتور بني إسكندر، ويوسف عصفور، وباسل فليحان، ومالك وهبي”.
دخل المدرسة الطبّية في جامعة “كولومبيا” بنيّة التخصّص طبيباً نفسانيّاً. “كنت أرافق والدي، وفي الـ”آي سي” شعرت بأنّ الأمراض النفسية تفوق خطورتها تلك الجسدية”. مرّ العامان الأوّلان في كليّة الطب، وحدث تحوّل في تفكيره، “شعرت بأنّ مريض السرطان يحتاج إلى مَن يعالجه، وأنّ الأدوية لوحدها لا تكفي. فهو يحتاج إلى مَن يمسك يده ويحتضنه كما يحتضن طبيب التوليد الطفل الجديد”. ما الذي دفعه إلى التخصّص في طرق علاج مرض السرطان؟ يقول: “تنبّهت إلى عدد من المرضى الذين قضوا بالسرطان في بداية تعلّمي في جامعة “كولومبيا”، حيث درست الطب العامّ. كان المرضى يتعذّبون بشكل كبير، وسمعت عائلات تقول إنّ مرضاها لا يعيشون أكثر من 4 أو 5 أسابيع، ولا تتمكّن من توديعم، فشعرت بحاجة قصوى إلى البحث في أمراض السرطان، إضافةً إلى ملاحظتي في حينه أنّ أطباء السرطان كانوا قدوةً في التضحية والعطاء أكثر من الأطباء النفسانيين، لذا أُعجبت بالفريق الطبي المتخصّص بعلاج السرطان، وبمهنة معالجة السرطان والعلوم المتّصلة بها”.
تابع دراسته في الـ”آي سي” في بيروت، وبعد تخرّجه انتقل إلى الجامعة الأميركية في بيروت حيث درس البيولوجيا وعلم النفس، ليلتحق بعدها بجامعة “يال” حيث تخصّص في البيولوجيا وعلم النفس، وفي البحوث حول مرض السرطان في جامعة “كولومبيا”
عمل على بحوث عدّة تتعلّق بسرطان الرئة والفك والحنجرة. “عملنا منذ البداية بنظرية الملاحظة (Theory of observation and learning from the extremes)، بمعنى أنّ الكثير من الأشخاص الذين يُصابون بالمرض، ويكون عُضالاً، يعيشون لأعوام طويلة، في حين أنّ آخرين يموتون في ريعان الشباب. يجب على الطبيب أن يمتصّ كلّ المعلومات التي يحتويها المريض بسبب مرضه، وتحليلها لإيجاد العلاج الملائم، ومساعدته قدر ما يسمح وضعه، وهذا سيشكّل فائدة للمريض المقبل”.
كان يزور لبنان ويعاين المرضى في الجامعة الأميركية. بين هويّتيْه الأميركية واللبنانية، أيّهما الأقرب إليه؟ يجيب بابتسامة: “أشعر بأنّني إنسان أكثر من شعوري بأنّني لبناني أو أميركي. نشأت وكان لديّ 3 أصدقاء من أصل إفريقي وإيرلندي ويهودي. لذا لديّ حبّ للبنان وتعلّق بثقافته وبثقافة أميركا. أحبّ الثقافتيْن وأحترم الوطنيْن، ولديّ تعلّق بالشعبين. أشعر بأنّه يترتّب عليّ أن أخدمهما. وليست لديّ أيّة تفرقة”.
كان مستغرَباً أن يقوم الرئيس السادس عشر للجامعة الأميركية في بيروت، وأوّل أميركي لبناني، بما قام به الدكتور فضلو خوري إبّان إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، حيث كتب له رسالة يعترض فيها على هذا القرار. وكانت سبقتها رسالة اعترض فيها على منع ترامب دخول بعض الجاليات من بلدان أكثريّتها مسلمة إلى الأراضي الأميركية.
عقب بيان خوري الأوّل، كان الرئيس سعد الحريري في زيارة لواشنطن، فصرّح ترامب من البيت الأبيض بأنّ العلاقة الأميركية اللبنانية أُسِّست مع تأسيس الجامعة الأميركية في بيروت، وقال إنّه كرئيس للولايات المتحدة الأميركية يشهد بريادة هذه الجامعة لأنّها تخرّج زعماء معتدلين للشرق الأوسط. يومها لم يُجِبْه الدكتور خوري “لأنّني لست من أنصار ترامب، فأنا ديموقراطي الهوى، لكن حتى لو كنت جمهورياً لَما كنت وافقت على قرار ترامب”. بعد هذا الكتاب المعترِض على نقل السفارة إلى القدس، صار فضلو خوري أكثر رئيس جامعة أميركية غير محبوب في الولايات المتحدة.
إقرأ أيضاً: “اغتيال” الجامعة الأميركية
من هذا المنطلق، يتعجّب من سؤالنا إيّاه عن دوره في انتفاضة 17 تشرين، ويسأل: “كيف يمكن لأحد لا يحبّه رئيس الولايات المتحدة الأميركية أن يتحوّل إلى رأس حربة الولايات المتحدة في انتفاضة لبنانية”.