إعادة الهيكلة التي إضطرت إليها الجامعة الأميركية في بيروت، ونتج عنها الاستغناء عن خدمات نحو 850 موظفاً من أصل 1500 سيطالهم التسريح، ليس إلاّ الملمح الأخير لجحيم الانهيار الاقتصادي المُنذر بالتوسع.
فالجامعة التي سبقت ولادة لبنان الكبير بأكثر من نصف قرن، شكلّت علامة الحداثة الأبرز فيه والمؤشر الحاسم على رفعة المكانة الاجتماعية والثقافية والكفاءاتية لطلابها وأساتذتها والعاملين في مستشفاها العصري الذي لا يزال الأفضل في المنطقة.
إقرأ أيضاً: لبنان أرض طاردة لأهلها
بلا مبالغة، هي الكيان الذي يختصر أفضل ما في لبنان.. حجراً وبشراً، وهي ما يستدل به على مكامن الطمأنينة في البلاد ومستقبلها. يطمئن لها الطالب والمريض والطامح والأستاذ والناشط السياسي..
لذا حين يرى اللبنانيون التداعي الذي يصيبها، يصيبهم شيء في صلب طمأنينتهم أو ما بقي منها وحال لبنان هي حاله.. أقفل قبلها الكثير وسيقفل بعدها الكثير، لكن الجامعة الأميركية يسيّجها وهم أنها أقوى المنهكين، وآخر من يسقطون في صراع البقاء!
تفشل الدولة حين تعجز عن تقديم الخدمات الاجتماعية للمواطن
ما شاهده اللبنانيون على شاشاتهم عن قصص قاسية للمسرّحين هي قصص يومية في لبنان، في مؤسسات لا تنتبه لها عدسات الكاميرات ولا يسجّّل مآسيها الصحافيون ولا ينخرط في رثائها المهتمون بالشأن العام. لكنها الأميركية، التفاحة الأكثر نضارة في سلّة لبنان. الحمراء اللامعة التي لا يصيبها ما كتب لبقية الناس. الحصن الأخير الواقع بين البحر والسماء، تفرّجوا على بعضه يسقط وينذر بسقوط الباقي. إنّها مجرّد مسألة وقت.
تزامن مشهد الأميركية مع تصريحات لوزير الاقتصاد في “حكومة اللاشيء” راوول نعمة يبشّر فيها اللبنانيين بأنّ دولتهم باتت “دولة فاشلة”. الواقع أنّ لبنان دولة استكملت عضويتها في نادي الدول الفاشلة بعد أن كانت نصف فاشلة لعقود طويلة تغاضى اللبنانيون عنها وتحايلوا للتعايش معها.
تفشل الدولة حين تفقد حقها بحصرية امتلاك أدوات العنف.. فالسلاح بيدها والسجون بيدها وقرار السجن أو الإعدام بيدها.. وبيدها وحدها.. وهذا ما فشلنا فيه كلبنانيين منذ اتفاق القاهرة المشؤوم عام 1969 إلى ثلاثية الشؤم: الجيش والشعب والمقاومة!!
وتفشل الدولة حين تعجز عن تقديم الخدمات الاجتماعية للمواطن.
نصف فشلنا الأول موثّق منذ أن قّرر جزء من اللبنانيين أنّ فلسطين أهم من لبنان، وأنّ القدس أهم من بيروت.. ثم استكملنا النصف الثاني للفشل مع الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي الذي يعيشه لبنان كجزء من الانهيار في عموم ما يسمى محور إيران حيث يتمدّد “هلال العملات والاقتصادات المنهارة” من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق!
إصابة الجامعة الأميركية لا مناص منها وسط هذا الخراب الكبير. فلبنان دولة منكوبة ولا مكان في الدولة المنكوبة لشيء كالجامعة الأميركية أو مثيلاتها
كلّ الرسائل العربية التي وصلتنا تشير إلى هذا الواقع. رسالة الرئاسة المصرية إلى لبنان، شدّدت على أولوية الإصلاحات كمدخل للحلّ عبر صندوق النقد الدولي، وشدّدت بالتوازي على نأي لبنان بنفسه عن “تجاذبات المنطقة”. الرسالة الكويتية التي سمعها مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم مباشرة لا تختلف كثيراً. حتى قطر طلبت مراجعة الأميركيين قبل أن تساعد لبنان، على الرغم من مصلحتها في المساعدة ضمن استراتيجية اسثمار الفراغ التي تموّلها قطر وتديرها تركيا!
وكلّ الرسائل حملت في طيّاتها استعداداً للمعونات الانسانية لا أكثر. على هذا المنوال لم تتجاوز فرنسا في إبداء استعدادها لمساعدة بعض المؤسسات التعليمية الفراكوفونية في بند المعونة الانسانية، في بلاد فقدت فيها العملة الوطنية أكثر من 80? من قيمتها في مقابل الدولار!
إصابة الجامعة الأميركية لا مناص منها وسط هذا الخراب الكبير. فلبنان دولة منكوبة ولا مكان في الدولة المنكوبة لشيء كالجامعة الأميركية أو مثيلاتها.
أما تحميل الجامعة نفسها مسؤولية اضطرارها لإعادة الهيكلة، فهو من الغباء وقصر النظر ما لا حاجة لمساجلته. فالجامعة التي دأبت على مشاريع التوسعة في السنوات الأخيرة، وتجرّأت على الحلم بتمتين موقع لبنان على الخارطة التعليمية والصحية، كانت تعلن ضمناً أنّ التوسعة باب لخلق الوظائف لا العكس.. أما اضطرارها اليوم لإعادة الهيكلة، فهو نتيجة مباشرة لعملية الاغتيال المنظّمة لجرأة اللبنانيين عل الحلم، منذ أن بدأ اغتيال لبنان عام 1969.
ليس صدفة أنّ من يغتالون الجامعة اليوم من ضمن اغتيال أوسع للبنان، اختلطت بدايتهم باغتيال رئيس الجامعة الاميركية مالكولم كير في 18 يناير 1984، بالقرب من مكتبه.