جامعة القاهرة: ضرب سدّ النّهضة ليسَ مُستحيلاً

مدة القراءة 8 د

سدّ النّهضة: من إقليم بنيشنقول – قماز الإثيوبي إلى طاولة مجلس الأمن الدّولي في مدينة نيويورك الأميركيّة، تتدحرَج كُرة السّدّ لتكبر يوماً بعد يوم بسبب التصرّفات الإثيوبيّة الأحاديّة المُهدِّدة للأمن المائي لكلٍّ من جمهوريّة مصر وجارتها السّودان.

وصول قضيّة سدّ النّهضة إلى دوائر مجلس الأمن هو بحدّ ذاته إنجازٌ للدّبلوماسيّة المصريّة. إذ إنّ المجلس لم يبحث طوال 75 سنةً قضايا مُماثلة باعتبار أنّها لا ترقى إلى مسائل الحفاظ على السّلم والأمن الدّوليَّين.

على الرّغم من حثّ مجلس الأمن على ضرورة الوصول إلى حلّ بين الأطراف الثلاثة (مصر – السّودان – إثيوبيا)، لا تلوح في الأفق أيّ مؤشّرات إلى حلّ النّزاع الطّويل والمُستمرّ بشأن سدّ النّهضة.

وزادَ الأمور تعقيداً، الإعلانُ الأثيوبيّ عن بدء عمليّة الملء الثّاني للسّدّ، تزامناً مع تغريدة لرئيس الحكومة آبي أحمد “استنهَضَ خلالها الأثيوبيين للحفاظ على سيادتهم”. والخطوة الإثيوبيّة لاقت معارضة مصريّة واضحة في بيان وزارة الخارجيّة التي اعتبرت العمليّة “تطوّراً خطراً يكشف مجدّداً سوء نية إثيوبيا وإصرارها على اتّخاذ إجراءات أحادية لفرض الأمر الواقع، وملء وتشغيل سدّ النهضة من دون اتفاق يراعي مصالح الدول الثّلاث، ويحدّ من أضرار هذا السّدّ على دولتيْ المَصَبّ”.

وأضافت أنّ “هذا الأمر سيزيد من حالة التأزّم والتوتّر في المنطقة، وسيؤدّي إلى وضعٍ يهدّد الأمن والسّلم على الصّعيدين الإقليمي والدولي”.

وعن مُستجدّات قضيّة “السّدّ”، التي باتت قضيّةً عربيّة، حاورَ “أساس” أستاذ الجيولوجيا والموارد المائيّة في جامعة القاهرة الدّكتور عبّاس شراقي، الذي اعتبَر الخطوة الإثيوبيّة “استفزازيّة” و”عدائيّة” وتأكيداً من قبل حكومة آبي أحمَد على “التّصرّف بأحاديّة من دون مراعاة دولتيْ المصبّ مصر والسّودان”.

أديس أبابا عندما أعلنت المرحلة الأولى السّنة الماضية، كان الهدف تخزين 18.5 مليار متر مكعّب من المياه. لكنّ الحقائق العلميّة والهندسيّة تكشف أنّها قامت بتخزين 5 مليارات فقط

وقال شراقي إنّ “توجُّه القاهرة والخرطوم إلى مجلس الأمن الدّوليّ لا يعني اعتراضهما على الملءِ الثّاني للسّدّ فقط. إذ إنّ الملء الأوّل، الذي قامت به أديس أبابا، مرفوضٌ بالكامل في العاصمتين العربيّتين. لكنّ مصر تريّثت بعد الملء الأوّل في إطار محاولة الوصول إلى حلٍّ للقضيّة يكون بموجبه الملء الثّاني بالتّوافق بين الدّول الثلاث ويحظى بشرعيّة، على عكس ما يحصل اليوم من تعريضٍ للمنطقة برمّتها للخطر”.

“الكلام عن أنّ الملء الثّاني يهدف إلى عرقلة أيّ عملٍ عسكريّ، هو كلام غير منطقيّ إطلاقاً. وإثيوبيا لا تقول الحقيقة في ما يتعلّق بمسألة تخزين المياه في السّدّ”، يقول، ويسهب في شرح هذه النّقطة: “أديس أبابا عندما أعلنت المرحلة الأولى السّنة الماضية، كان الهدف تخزين 18.5 مليار متر مكعّب من المياه. لكنّ الحقائق العلميّة والهندسيّة تكشف أنّها قامت بتخزين 5 مليارات فقط”.

وعزا شراقي هذا الفعل إلى أهدافٍ داخليّة تخصّ رئيس الحكومة آبي أحمد، الذي يريد أن يُسجّل نقاطاً “شعبويّة” أمام مواطنيه لأهداف انتخابيّة بإظهار “التزامه بمواعيد الملء”، إلّا أنّه يُخفي عنهم حقيقة الكميّة الفعليّة.

وكشَفَ الدّكتور شراقي لـ”أساس” أنّ “إثيوبيا تلاعبَت بالحقائق عند إعلانها التخزين الثّاني”. إذ اعتبرَ أنّ ما جرى هو استكمالٌ للملء الأول الذي لم يكتمِل أصلاً. وهكذا تكون أديس أبابا قد ملأت في المرحلتين (السّنة الماضيّة واليوم) 8 مليارات متر مكعّب فقط، فيما كان هدفها في المرحلة الأولى 18.5 ملياراً.

وعن الأضرار التي يُسبّبها السّدّ لمصر، قال شراقي إنّه “عند تخزين الـ5 مليارات متر مكعّب في السّنة الماضية، كان من المُفترض أن تكون هذه الكميّة مُخزّنة في السّدّ العالي”، مضيفاً أنّ “هذه الكميّة تكفي لريّ مليون فدّان بعائد إنتاج زراعي يبلغ 3 مليارات دولار وأكثر”.

ولدى السّؤال عن شكل الحلّ، أجاب شراقي أنّ “الملء ينبغي أن يكون على فترات متباعدة لا تُؤثّر على مصلحة مصر، وهذا ما ترفضه إثيوبيا. وهذا هو سبب اللجوء إلى مجلس الأمن الدّوليّ بعد فشَل الاتحاد الإفريقي في الوصول إلى حلٍّ لمسألة السّدّ. ويُتوَقّع أن تنبثق لجنة مفاوضات عن مجلس الأمن لفترة زمنيّة محدّدة بـ6 أشهر”. وقال إنّ “مصر تتوقّع من المجلس أن يوجّه توصيةً للدّول الـ3 بالامتناع عن أيّ تصرّف أحاديّ بشأن مياه النّيل”.

هذا عن مصر. لكن ماذا عن السّودان الذي تفصلُ أراضيها عن “السّد” بعض الأميال القليلة التي تجعَل من أيّ أضرارٍ مُحتملة للسّد أقسى من تلك التي قد تواجهها مصر

أمّا عن إمكان اللجوء إلى الخيار العسكريّ، فأكّد شراقي على نحو واضح: “هو آخر خيار مطروح، ونأمل أن لا نصل إليه. مصر تأمل الوصول إلى حلّ سلمي. لكنّ الحلّ العسكريّ لم يُسحَب ولن يُسحَب من الخيارات المصريّة”.

وأشار إلى أن “لا أحد من المسؤولين المصريّين أصدر تصريحاً بتوجيه ضربة عسكريّة مباشرة للسّدّ. ويبقى المرجعَ كلامُ الرّئيس عبدالفتّاح السّيسي عن أنّ مياه مصر خط أحمر”. وتابع شراقي إنّه “لو مُلِئَ السّد بـ8 مليارات متر مكعّب، فهذا لا يعني أنّه يستحيل ضربه عسكريّاً أو حتّى يصعُب”.

ونوّه إلى أنّ “الضّربات العسكريّة لم تعد عشوائيّة كما في السّابق. بالإضافة إلى أنّ السّدّ الإثيوبي يتألّف من 13 بوّابة يُمكن تعطيلها بسهولة. إذ إنّ التطوّر العسكريّ والتقنيّ، الذي بلغه العلم اليوم، يُساعد على ضرب أهداف مُحدّدة في السدّ من أجل تصريف المياه من دون التسبُّب بأضرار لمصر أو السّودان”.

هذا عن مصر. لكن ماذا عن السّودان الذي تفصلُ أراضيها عن “السّد” بعض الأميال القليلة التي تجعَل من أيّ أضرارٍ مُحتملة للسّد أقسى من تلك التي قد تواجهها مصر.

مخاوف الخرطوم هي نفسها التي لدى القاهرة: تنظيم تدفّق المياه إلى السّدود.

لكن، في الوقت عينه، يُشكّل “سدّ النهضة” مصدر قلقٍ أبعد من تنظيم المياه للسّودان. فالأميال التي تفصلها عن سدّ النّهضة كفيلة بأن تجعل آلاف الكيلومترات المُربّعة تنغمر بالمياه في حال تعرّض السّدّ لأيّ حادثٍ بعد امتلائه بـ74 مليار متر مكعّب.

على الرّغم من أنّ حكومة آبي أحمَد تدأب على تكرار عبارة أنّ “مصر والسّودان ستستفيدان من السّدّ”، إلّا أنّ الواقع العلميّ يشير إلى عكس ذلك تماماً.

أوّلاً: بعد تخزين إثيوبيا لـ5 مليارات متر مكعّب أثناء الملء الأوّل في السّنة الماضيّة، انخفض مستوى النّيل الأزرق وأدّى إلى خروج العديد من المحطّات المُخصّصة لمياه الشّرب من الخدمة.

ثانياً: قد يؤدّي أيّ خلل في السّدّ إلى غرَق بعض المناطق الغنيّة بالموارد المعدنيّة في السّودان، التي تضمّ الذّهب والنّحاس واليورانيوم والبلاتين. هذا عدا عن إمكان انتقال بعض العناصر الثّقيلة إلى مجرى مياه النّيل الأزرق.

ثالثاً: سيؤدّي سدّ النهضة إلى حرمان الأراضي الزّراعيّة للسّودان من الرواسب النّهرية الناتجة عن الطمي، فينخفض الإنتاج الزّراعي الذي يعتمد عليه الاقتصاد السّوداني بشكلٍ رئيسيّ، وتضطرّ السّودان إلى اللجوء إلى الأسمدة الزّراعيّة، فتزيد كلفة الإنتاج الزّراعيّ، وتتحوّل الزّراعة من عضويّة إلى كيميائيّة.

رابعاً: سيؤدّي عدم تعاون إثيوبيا وعدم تشاورها مع السودان في الملء والتّشغيل إلى إرباك عمليّة التشغيل في سدّيّ الروصيرص وسنار السّودانيَّين.

خامساً: تشير تقديرات الخبراء إلى احتمال هجرة عشرات الآلاف من قاطني إقليم بنيشنقول الأثيوبي نحو السّودان، في ظاهرة لجوء محتملة، نتيجة إغراق بحيرة سدّ النّهضة لمساكنهم وأراضيهم.

دفعت هذه العوامل وغيرها السّودان إلى توقيع اتفاق عسكريّ مع مصر في شهر آذار المُنصرم بعد زيارة رئيس أركان حرب القوّات المُسلّحة المصريّة الفريق محمد فريد حجازي العاصمة السّودانيّة الخرطوم. وجاءَت الزّيارة بعد التحذير الذي أطلقه الرّئيس السّيسي: “لا يُمكن لأحد أن يأخذَ قطرة ماء واحدة من مصر. ومَن يريد التجربة فليحاول”.

بعد تحذير السّيسي وتوقيع الاتفاق بـ3 أشهر، وتحديداً في شهر حزيران الماضي، أجرى الجيشان المصريّ والسّودانيّ مناورات عسكريّة واسعة قرب الحدود مع إثيوبيا حملت اسم “حُرّاس النّيل” في رسالة واضحة لـ”أديس أبابا”.

وبالتوازي مع الرّسالة العسكريّة المُشتركة، كانت الدّبلوماسيّة السّودانيّة بقيادة وزيرة الخارجيّة مريم الصّادق المهديّ تعمل بالشّراكة مع الدّبلوماسيّة المصريّة.

وبعدَ اللجوء إلى مجلس الأمن الدّولي أعلنَت مريم الصّادق المهديّ قبل أيّام قليلة من العاصمة الرّوسيّة موسكو، التي زارتها لـ4 أيّام لبحث قضيّة السّدّ، أنّ “بلادها تدرس إمكان التوجّه إلى مجلس حقوق الإنسان الأمميّ بسبب تصرّفات إثيوبيا بشأن سدّ النهضة”.

أقرأ أيضاً: إنّها مصر الجديدة

وأضافت: “لدينا الآن 122 شهراً من المفاوضات غير المثمرة، وهذا تهديدٌ مباشر لأمْن السودانيين والمصريين. لذلك ننتظر من الأمم المتحدة أن تتحمّل مسؤوليتها، وتقودنا إلى إبرام اتفاق قانوني في فترة قصيرة من الزمن”.

على الرّغم من الضّغط الدّبلوماسيّ المصريّ والسّودانيّ للوصول إلى حلّ سلميّ وعادل، لا يبدو أنّ ضغط المياه على توربينات سدّ النّهضة يوحِي بتساهل إثيوبيّ في هذا الإطار. ويبقى السّباق خلال الأسابيع المُقبلة بين طاولة المفاوضات من جهة، والقوّات المُسلّحة المصريّة وتحذير الرّئيس السّيسي بقوله “مَن يريد التجربة فليحاول”، من جهة أخرى.

مواضيع ذات صلة

خشية غربيّة من جولة تصعيد جديدة

إذا لم تُثبت التطوّرات عكس ذلك، فإنّ الأوساط الدبلوماسية الغربية لا ترى في مسوّدة الاتّفاق الذي صاغة الموفد الأميركي آموس هوكستين وقدّمته السفيرة الأميركية لدى…

قيس عبيد: شبحُ مغنيّة الذي حملَ الجنسيّة الإسرائيليّة

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

بين لاريجاني وليزا: الحرب مكَمْلة!

دخلت المرحلة الثانية من التوغّل البرّي جنوباً، التي أعلنها الجيش الإسرائيلي، شريكة أساسية في حياكة معالم تسوية وقف إطلاق النار التي لم تنضج بعد. “تكثيفٌ”…

هل تملأ مصر فراغ التّسليم والتّسلّم؟

يترنّح المسار التفاوضي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في عدوانها الوحشي بحقّ لبنان. في الأثناء، يواظب الموفد…