حوَّل قادة حزب الوفد، ولا سيّما سعد زغلول، مسألة إدارة الكنوز الفرعونية في مصر إلى حقّ سيادي مصري في الصراع مع الإنكليز. وصارت معركة الوصاية على مقبرة “توت عنخ آمون”، المقبرة الوحيدة التي وجدت بكامل محتوياتها حتى يوم اكتشافها عام 1922 على يد البريطاني هوارد كارتر، فصلاً من فصول تشكُّل هويّة وطنية مصرية فرعونية مضادّة لهويّة مصرية كولونيالية كان يشكّلها الاستعمار الإنكليزي. القوميّون التقدّميّون المصريون استندوا إلى مُخرجات علم الآثار ليؤسّسوا سرديّة وطنية تفيد بأنّهم هم الورثة المباشرون للفراعنة، وأصحاب الحقّ الشرعي لإدارة الكنوز التاريخية في مصر القديمة. وهو ما أوصل إلى استيلاد الهويّة الفرعونية كهويّة للمصريين، ردّاً على الهوس الأوروبي بتشكيل وإعادة تشكيل مصر، وتجاوزاً لهويّات أخرى كانت تسعى إلى توكيد نفسها، كالهويّة الإسلامية لمصر بعد سقوط السلطنة العثمانية، أو الإيديولوجيا العربية المولودة من رحم الاشتباك مع العثمانية السياسية، والمؤدّية بين أسباب أخرى إلى سقوطها.
منذ ذلك الحين لا تكفّ الهويّة الفرعونية المصرية عن تسجيل طفرات تتّصل مباشرة بتطوّر الأحداث السياسية والثقافية في مصر. آخر تجلّيات ذلك هو “موكب المومياوات” الذي انشغل به المصريّون والعالم الشهر الفائت. سار الموكب المهيب بمومياواته الـ 22 (18 ملكاً وأربع ملكات)، وسط احتفالية مبهرة، من أمام المتحف المصري في ميدان التحرير، بوسط القاهرة، إلى المتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط جنوب العاصمة، حيث استقرّت المومياوات الملكية في مثواها الأخير.
كما زغلول الفائز يومئذٍ بالأغلبية البرلمانية، والمستند إلى توت عنخ آمون في صراع الهويّات الدائر آنذاك، بدت مصر عبد الفتاح السيسي، مستندة إلى موكب المومياوات، لتحفيز وتنشيط هوية وطنية مصرية في لحظة صراع هويّاتي هائل يدور في مصر مع الإسلام السياسي في الداخل، والتوثّب التركي من الخارج، المموَّل من “عرب قطر”، والمبثوث عبر جزيرتها، التي للمناسبة هي المكان الوحيد الذي جمع، على شاشة واحدة، الناصرية بلسان الراحل محمد حسنين هيكل والإخوانية بلسان الشيخ يوسف القرضاوي!
لا تكفّ الهويّة الفرعونية المصرية عن تسجيل طفرات تتّصل مباشرة بتطوّر الأحداث السياسية والثقافية في مصر. آخر تجلّيات ذلك هو “موكب المومياوات” الذي انشغل به المصريّون والعالم الشهر الفائت
لا ينفصل موكب المومياوات عن الدينامية السياسية النشطة، التي تشهدها مصر بأدوار جديدة وأخرى متجدّدة. ولا يَخفى توظيفه لتأكيد اتّصال منظومة الدولة في اللحظة السياسية الراهنة بعمق سحيق يتجاوز الظرف الآنيّ الصراعيّ الذي أفضى إلى ولاداتها واستتبابها في سدّة الحكم. إنّه استدعاء لماضٍ شديد الثراء، ووصلٌ له بمستقبل شديد الطموح تعبّر عنه تغييرات اقتصادية رئيسة، أبرزها اكتشافات الغاز الأخيرة في البحر المتوسط، ولا سيّما حقل ناهز إنتاجه 3 مليارات قدم مكعّبة، وفتح المجال تالياً أمام القاهرة لتتحوّل إلى مركز إقليمي للطاقة. وليس من باب الصدفة، في هذا السياق، تحويل منتدى غاز شرق المتوسط إلى منظمة رسمية مقرّها القاهرة.
سيجد الناظر إلى نشاط مصر الدبلوماسي والسياسي أنّ القاهرة تتصدّر إدارة ومعالجة الأزمات في أكثر من ساحة ملتهبة، شرقاً في غزّة ولبنان، جنوباً في السودان، وغرباً في ليبيا، بالإضافة إلى ساحات أخرى. أمّا على مستوى الأدوات، فسيلاحظ المراقب أنّ حكومة السيسي تزاوج، بكفاية رفيعة، توظيف الدبلوماسية النشطة والتحفّز العسكري والذراع المالي المستجدّ بين أدوات القاهرة الناعمة.
آخر النجاحات كان الدور المصري، الذي اعترفت به واشنطن باتّصالين بين الرئيسين بايدن والسيسي، في الوصول إلى وقف لإطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، مضافاً إليه دور ماليّ مستجدّ بين أدوات الدبلوماسية المصرية من خلال رصد نصف مليار دولار لإعادة إعمار غزّة للمرة الأولى منذ العام 1952 إذا وضعنا جانباً التمويل العسكري لثورة الجزائر. ويظهر النشاط المصري بوضوح من خلال ثلاث زيارات أمنيّة مصرية لقطاع غزّة (آخرها أمس الأول) منذ وقف إطلاق النار، بغية التباحث مع قادة حركة «حماس» وفصائل فلسطينية، من أجل تثبيت وقف إطلاق النار وتوسعته نحو اتفاق سياسي أشمل ينطوي على هدنة طويلة تسمح بإعادة إعمار غزّة وتحقيق صفقة تبادل، وليس مجرّد اتّفاق مؤقّت. وكانت القاهرة ولا تزال محوراً لحركة دبلوماسية وسياسية حول غزّة، من ضمنها زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري للأردن، واتصالاته المفتوحة مع نظرائه في واشنطن وعواصم أوروبية، والاتصالات السياسية بين الرئيس السيسي ووليّ عهد أبوظبي محمد بن زايد (الذي زار الأردن أيضاً).
جنوباً، تعمّد الرئيس السيسي أن يذهب خطوة أبعد في تعميق المصالح المشتركة مع السودان، حين أعرب، خلال لقائه الرئيس الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني في باريس، عن مشاركة مصر في المبادرة الدولية لتسوية مديونية السودان من خلال استخدام حصّة مصر لدى صندوق النقد الدولي لضمان ديون الخرطوم المشكوك في تحصيلها.
يتزامن ذلك مع تطوّر متسارع في طبيعة وشكل العلاقات العسكرية بين السودان ومصر، عبّرت عنه مناورات “حماة النيل” الجارية الآن، والتي أعقبت مناورتين جويّتين أخريين بعنوان “نسور النيل 1″ و”نسور النيل 2” في تشرين الثاني 2020، ونيسان 2021، وبأهداف معلنة أبرزها مواجهة تحدّي سدّ “النهضة” الإثيوبي، على النيل الأزرق، الرافد الرئيس لنهر النيل. فالدولتان ترفضان إصرار أديس أبابا على ملء ثانٍ للسدّ، في تموز أو آب المقبلين، بعد نحو عام على ملئه الأوّل.
سيجد الناظر إلى نشاط مصر الدبلوماسي والسياسي أنّ القاهرة تتصدّر إدارة ومعالجة الأزمات في أكثر من ساحة ملتهبة، شرقاً في غزّة ولبنان، جنوباً في السودان، وغرباً في ليبيا، بالإضافة إلى ساحات أخرى
هنا تظهر المزاوجة المصرية بين دبلوماسية نشطة مع كلّ اللاعبين المؤثّرين في هذا الملف، ولا سيّما واشنطن، وبين تحفّز عسكري جادّ عبّر عنه الرئيس السيسي بوضوح غير مسبوق في 30 آذار الماضي، في احتفال إعادة فتح قناة السويس بعد جنوح إحدى السفن وتعطيل الملاحة الدولية في القناة، بقوله إنّ “مياه النيل خطّ أحمر، وأيّ مساس بمياه مصر سيكون له ردّ فعل يهدّد استقرار المنطقة بالكامل”.
ليس هذا كلاماً في الهواء. فلو نظرنا غرباً سنجد أنّ الرئاسة المصرية نجحت في رسم خط الأمن القومي المصري بعمق 1000 كلم داخل ليبيا، حين حذّر الرئيس السيسي تركيا من تجاوز خط “سرت الجفرة” الصيف الفائت، وهو ما أدّى إلى ردع تركيا، وفتح المجال أمام إعادة تكوين السلطة السياسية في ليبيا من خلال منصّة جنيف التي أفضت إلى انتخاب محمد المنفي لرئاسة المجلس الرئاسي، وعبد الحميد دبيبه لرئاسة الحكومة المقبلة، وإنهاء تبعية السلطة التنفيذية في ليبيا لأنقرة، التي مثّلها فايز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية.
كلّ هذا ما كان ممكناً لو نجحت التشكيلات العسكرية، التي تدعمها تركيا، في السيطرة على سرت، ومن خلالها على الموانئ النفطية في منطقة الهلال النفطي شرقي ليبيا، وعلى قاعدة الجفرة الجوية المهمّة.
يحصل هذا كلّه من دون أن تغيب النجاحات المصرية عن الداخل، ولا سيّما اقتصادياً.
لا يتحدّث المصريون كثيراً عن المشروعات القومية الهائلة المُنجَزة أو قيد الإنجاز. لكن يكفي النظر إلى العاصمة الإدارية الجديدة التي ستنتقل إليها الدولة المصرية بمعظم أجهزتها الكبرى، ولا سيّما البرلمان والحكومة، وهي واحدة من عشرين مدينة جديدة يبنيها المصريون، في المنصورة الجديدة ورشيد الجديدة، وبورسعيد الجديدة، والإسماعيلية الجديدة وأسيوط الجديدة وأسوان الجديدة، وقنا الجديدة، وتوشكى الجديدة، بهدف استيعاب التضخّم السكّاني، ومعالجة واقع أنّ الأمّة المصرية تعيش على 7% فقط من إجمالي مساحة مصر.
لو نظرنا غرباً سنجد أنّ الرئاسة المصرية نجحت في رسم خط الأمن القومي المصري بعمق 1000 كلم داخل ليبيا
وشرع الرئيس السيسي بمبادرتين استراتيجيّتين: الأولى لتطوير الريف المصري الذي يحتضن نحو 56% من سكان مصر، ويهدف إلى إعادة صياغة معنى الحياة في كل ربوع مصر، وفقاً لروح العصر، مستفيداً من كلّ ما توفّره التكنولوجيا المعاصرة على مستوى الزراعة والريّ وحركة النقل وشبكات المياه والكهرباء والجسور. والمبادرة الثانية تحمل عنوان “100 مليون صحة”، وهدفها توفير الكثير من العلاجات والفحوصات للمصريين مجّاناً، ولا سيّما القضاء على فيروس “سي”، والكشف عن الأمراض غير السارية مثل السكّري وضغط الدم والسمنة.
إقرأ أيضاً: عودة مصر (2): تأسيس مشروع عربيّ.. بـ”الدولة الوطنيّة”
يتّضح في ضوء خارطة النهوض هذه، التي تتوزّع على العمران والصحة والاجتماع، حجم مشروع النهوض الذي يقوده السيسي في مصر، مسنوداً بوقائع اقتصادية صلبة يحسن توظيفها لإعادة بناء مكانة مصر ودورها.
في هذا السياق، أعلن صندوق النقد الدولي، قبل أيام، توصّل بعثة الصندوق إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع السلطات المصرية لاستكمال مراجعة الأداء الثانية والأخيرة في إطار اتفاق قرض لمصر بقيمة 5.2 مليارات دولار. المهمّ في الخبر هو تفاصيل تقرير الصندوق عن مؤشّرات الاقتصاد المصري، التي يمكن إيجازها بخمسة.
1- توقّع بلوغ معدّل النموّ 2.8% في السنة المالية الجارية، ويرتفع إلى 5.2% في السنة المالية المقبلة.
2- الإشادة بتوجيه الإدارة المصرية استثمارات أكبر إلى مشروعات البنية التحتية وقطاعيْ الصحة والتعليم في السنة المالية المقبلة.
3- الإشادة بالسياسة النقدية المصرية، ونجاحها في كبح التضخّم، واستيفاء كل المعايير الهيكلية التي يراقبها الصندوق.
4- التوقّف عند إطلاق “البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكلية”، إشارةً إلى التزام الحكومة بدعم تنمية رأس المال البشري، وزيادة كفاية وشفافية المؤسسات العامة. والتنويه بالتقدّم في الإصلاحات المتعلّقة بشفافية المالية العامة والحوكمة، والحماية الاجتماعية، وتحسين مناخ الأعمال.
5- ملاحظة صلابة الاقتصاد المصري ونجاحه في تخفيف أثر أزمة كوفيد-19 من خلال استجابة السلطات السريعة والمتوازنة على مستوى السياسات، بما فيها طلبها المقدّم على مرحلتيْن للحصول على حزمة تمويلية من خلال “أداة التمويل السريع” و”اتفاق الاستعداد الائتماني” بقيمة 8 مليارات دولار تقريباً.
يتّضح في ضوء خارطة النهوض هذه، التي تتوزّع على العمران والصحة والاجتماع، حجم مشروع النهوض الذي يقوده السيسي في مصر، مسنوداً بوقائع اقتصادية صلبة يحسن توظيفها لإعادة بناء مكانة مصر ودورها
تنمو مصر الجديدة بهدوء وبلا ضجيج إعلامي كبير. بيد أنّ صوت نهوض الفرعون المصري وصل للجميع، ولا سيّما لخصوم القاهرة.
خلال أقلّ من عام، منذ هذه المواقف المصرية في ليبيا، بدأ الرئيس رجب طيب إردوغان رحلة تراجع قاسية لمعالجة ذيول نحو ثمانية أعوام من القطيعة مع القاهرة بسبب دعم تركيا لجماعة الإخوان المسلمين المصرية، واستضافة قياداتها في إسطنبول إثر الإطاحة بحكم الرئيس المصري السابق محمد مرسي عام 2013. وقد شهدت القاهرة خلال الأسابيع القليلة الماضية سلسلة اجتماعات مصرية تركية، وصف وزير الخارجية المصري مضمونها بأنّه ينمّ عن “بوادر رغبة تركية لتغيير المسار، والوفاء بالمتطلّبات من أجل مراعاة طبيعة العلاقات الدولية، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية، وعدم رعاية أيّ عناصر مناهضة للدولة المصرية”. وكشف عن اتصال هاتفي بينه وبين نظيره التركي شاووش أوغلو حول الأزمة الحالية في قطاع غزّة، رابطاً احتمال اللقاء بينهما بنتائج “المراحل الاستكشافية”.
إقرأ أيضاً: عودة مصر (1): خروج الفرعون من القلعة
تعبر هذه اللغة بوضوح شديد عن ميزان قوى مختلف في العلاقة بين الدولتين هو حصيلة تراكم سياسي وديبلوماسي وعسكري مصري يؤشر الى الموقع الجديد لمصر في المعادلة الاقليمية.
وليس بعيداً من إعادة التشكُّل هذه في البناء الجيواستراتيجي في المنطقة، وتأقلم عدد من اللاعبين مع الصعود الإقليمي لمصر ودورها، يبرز التغيير الراديكالي الذي طرأ على مواقف الدوحة.
فبعد لقاء مع الرئيس السيسي وتسليمه دعوة من أمير قطر لزيارة الدوحة، أكّد وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، أنّ مصر من الدول الكبرى في المنطقة وتؤدّي دوراً قيادياً في الملفّات الإقليمية، مشدّداً على أنّ الرئيس عبد الفتاح السيسي يمثّل الشرعية المنتخبة في مصر.
وإذ لا يجدر فصل هذه التطوّرات عن نتائج قمة العُلا السعودية التي قرّرت طي صفحة الخلاف بين قطر وكلٍّ من الرياض وأبو ظبي والبحرين والقاهرة، إلّا أنّ ما حدث، في الشكل والمضمون، هو تعبير عن تراجع مشروع في المنطقة لحساب آخر، بعد الضربات التي تلقّاها مشروع الإخوان المسلمين في السودان ومصر، وتعثّره في تونس، والتوازن بمواجهته في ليبيا.