لبنان بين الغاز العربيّ والنفط الإيرانيّ.. حقائق وأسئلة

مدة القراءة 7 د

مشهد غرائبي ارتسم فجأة بعد إعلان السيّد حسن نصر الله بدء استيراد النفط من إيران، الذي أعقبه سريعاً إعلان السفيرة الأميركية دوروثي شيا عن مسعى مع البنك الدولي لاستجرار الطاقة الكهربائية من الأردن إلى لبنان عبر سوريا، بعد توفير كميّات من الغاز المصري للمملكة الهاشمية بما يمكّنها من زيادة إنتاجها من الكهرباء، وكذلك لمعامل إنتاج الكهرباء في لبنان.

الغرابة في المشهد هي أنّ لبنان، الذي تطحنه أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية جعلته على قارعة الأمم بلا معين ولا مغيث، وجد نفسه خلال ساعات قليلة مركز اهتمام من قوى إقليمية ودولية يتسابق كلٌّ منها، على طريقته، على تزويده ببعض الطاقة بما يبقيه على قيد الحياة ويؤجّل موته المنتظر.

وعلى جاري العادة، صدحت الأصوات الممانعة بنشيد عن “انتصار إلهي” جديد يضاف إلى سلسلة الانتصارات في سجلّ المقاومة. إذ اعتبر الممانعون أنّ إعلان نصر الله بدء استيراد النفط الإيراني هو الذي حفّز الولايات المتحدة على خطوتها، ودفعها إلى بدء فكّ حصارها المزعوم للبنان.

حزب الله، صاحب اليد الطولى في إضعاف الدولة اللبنانية وشلّ مؤسساتها، يشكو من عجز هذه الدولة، فيبادر إلى مصادرة دورها مرة جديدة ويقدّم نفسه بديلاً لها، ضارباً عرض الحائط بكلّ المخاطر التي يمكن أن تتعرّض لها البلاد في علاقاتها مع العالم الخارجي

ترّهات لا تستقيم أمام أيّ نقاش. لا حزب الله انتصر ولا واشنطن انهزمت فألغت حصاراً غير موجود. جلّ ما في الأمر أنّ كلّاً من المعسكرين، إيران وحزبها من جهة، وأميركا وحلفائها من جهة أخرى، خطا خطوة غير متوقّعة على رقعة الشطرنج اللبنانية لتعزيز موقعه في مبارزة مديدة مفتوحة على كلّ الاحتمالات.

هذا لا يعني على الإطلاق عدم جدّيّة الخطوتين، اللتين تعيدان تظهير حقائق سياسية في لبنان وحوله، من دون أن تحجبا الكثير من الأسئلة عن مدى نجاعتهما وإمكانات نجاحهما، فضلاً عن انعكاساتهما على الوضع السياسي اللبناني.

– أولى هذه الحقائق، التي ثبّتها على وجه الخصوص إعلان السفيرة الأميركية، أنّ لبنان ليس متروكاً لمصير أسود محتّم، ولم يسقط بعد في الحضن الإيراني، خلافاً لِما يتبجّح به مسؤولون إيرانيون، وتتصرّف على أساسه قيادة حزب الله، ويتخوّف منه عن حقّ كلّ السياديين اللبنانيين.

لبنان مقيم على فالق الزلازل بين طهران وواشنطن، ولا يزال ساحة من ساحات التجاذب بين الجانبين. وما المشهد المستجدّ تحت عنوان الطاقة والنفط، سوى وجه من وجوه الاشتباك الإقليمي المتعدّد الجبهات، بين دولة تستنزف كلّ ثرواتها ومقدّرات شعبها لرسم خريطة نفوذ لها في بلاد العرب، وبين معسكر عربي ودولي يتصدّى لهذه العدوانية التوسّعية ويسعى إلى كبح جماحها.

ولهذا يمكن الميل إلى الرأي القائل إنّ إرسال السفينة الإيرانية، التي لن تحلّ مشكلة نقص الوقود في لبنان، هو استعراض من قبل إدارة الرئيس إبراهيم رئيسي الجديدة قبل الاستئناف المرتقب لمفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني، ورسالة سياسية تعلن فيها، بلسان حزب الله، خرق الحصار المفروض على إيران.

– ليس تفصيلاً بسيطاً أن يكون عنصر عربي وازن، مثل مصر والمملكة الأردنية الهاشمية، هو عماد الخطة التي أعلنتها الولايات المتحدة لمساعدة لبنان، علماً أنّ القاهرة ما غابت يوماً عن تقديم المشورة والنصح للمسؤولين اللبنانيين منذ اندلاع الأزمة، ولا عن تقديم المساعدة المباشرة للجيش وغيره من المؤسسات.

متى تبدأ الخطوة الأولى من الخطة الأميركية؟ مَن سيتولّى إعادة تأهيل أنبوب الجرّ الممتدّ بين مصر والأردن وسوريا وصولاً إلى لبنان؟ مَن سيشرف على التنفيذ؟

– بمقدار ما أظهر التطوّر الجديد الإصرار الإيراني على السيطرة على “الساحة” اللبنانية، فإنّه أثبت مرة أخرى أن الحفاظ على “الجمهورية” اللبنانية المستقلة وذات السيادة هو مصلحة أكيدة للولايات المتحدة، أقلّه لسبب جوهري يعرفه الجميع ولا يخفيه الأميركيون هو الحفاظ على أمن حليفتهم الأولى إسرائيل، وليس لإعجابهم المفرط بالنظام اللبناني وبأداء الطبقة السياسية التي تتولّى شؤون هذا البلد.

وهنا تقتضي الواقعية والحكمة القول، خصوصاً بعد الزلزال الأفغاني الذي أثبت أنّ العامل الأخلاقي والوفاء للحلفاء ليسا من العوامل الحاسمة في قياس مصلحة أميركا وأولويّاتها، إنّ هذا الحنوّ على لبنان قد يتبدّل متى اقتضت مصلحة واشنطن ذلك. ألم يكن “تلزيم” لبنان إلى حافظ الأسد لعقود طويلة نموذجاً لا ينسى لِما يسمّى البراغماتية الأميركية.

– حزب الله، صاحب اليد الطولى في إضعاف الدولة اللبنانية وشلّ مؤسساتها، يشكو من عجز هذه الدولة، فيبادر إلى مصادرة دورها مرة جديدة ويقدّم نفسه بديلاً لها، ضارباً عرض الحائط بكلّ المخاطر التي يمكن أن تتعرّض لها البلاد في علاقاتها مع العالم الخارجي.

ويفترض ألّا يغيب عن الأذهان أنّ الحزب، الذي تلطّخت صورته بسبب حمايته التهريب إلى سوريا، وما تكشّف من تورّط عدد من أنصاره في الجنوب والبقاع في تخزين المحروقات للاتّجار بها في السوق السوداء، يستهدف في ما يستهدف استعادة صورة الراعي الصالح ذي السيرة الناصعة والمنشغل بهموم الناس وحماية مصالحهم.

ولا بدّ من الاعتراف هنا بأنّ خطوته الجديدة، إن نجحت، ستلقى استحساناً شعبياً قد يمتدّ إلى خارج بيئة الحزب، لأنّ اللبنانيين غارقون في بؤسهم، والغريق يحتاج إلى خشبة خلاص من دون أن يسأل عن اليد التي تمدّها إليه.

– كلّ هذا المشهد يرتسم على مرأى ومسمع رئيس الجمهورية، المؤتمن على الدولة وسيادتها، الذي التزم صمتاً مطبقاً بسبب انشغاله بممارسة هوايته المفضّلة في النكد والمناكفة وتعطيل الحياة السياسية وشلّ المؤسسات الدستورية. ومن نافل القول إنّ هذا الواقع إنْ دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ هذا الرجل يفتقر إلى الأهليّة التي يتطلّبها منصبه.

يبقى أنّ حرب الغاز العربي والنفط الإيراني على الأرض اللبنانية تثير من الأسئلة أكثر ممّا تقدّم من إجابات.

كيف سيصل النفط الإيراني إلى لبنان؟ أين سترسو السفينة الإيرانية، والسفن التي وعد نصر الله بأنّها ستتبعها؟ في أيّ خزّانات ستفرغ حمولتها؟ ومَن سيتولّى توزيع هذه الحمولة، وكيف؟

هل سترسو السفينة، كما قيل، في ميناء بانياس السوري، وتنقل حمولتها منه إلى لبنان بواسطة الصهاريج؟ ما مدى فاعلية هذا السيناريو واحتمالات نجاحه؟

مَن سيسعّر النفط الإيراني، وعلى أيّ أساس؟ ما هو تأثير ذلك على لائحة أسعار المحروقات التي يفترض أن تضعها وزارة الطاقة عاجلاً أم آجلاً بعد قرار المصرف المركزي الخاص برفع الدعم؟ وما انعكاس كلّ ذلك على ماكينة التهريب إلى سوريا؟

متى تبدأ الخطوة الأولى من الخطة الأميركية؟ مَن سيتولّى إعادة تأهيل أنبوب الجرّ الممتدّ بين مصر والأردن وسوريا وصولاً إلى لبنان؟ مَن سيشرف على التنفيذ؟

إقرأ أيضاً: نصر الله مقلّداً “أبو عمار”: السفينة انطلقت

هل سيدفع البنك الدولي، كما قيل، ثمن الغاز المصري والإنتاج الكهربائي الأردني وتكاليف صيانة أنبوب الجرّ؟ ماذا عن “قانون قيصر” الأميركي الذي يمنع الاستيراد عبر سوريا؟ هل ستعطي الخزينة الأميركية استثناء للبنان من أجل إنجاح هذه الخطة؟

كلّ هذه الأسئلة تتقدّمها الإشكالية الأبرز المتعلّقة بالدور السوري في هذه العملية برمّتها. فهل كانت دوروثي شيا لتجازف بالإعلان عن المبادرة الأميركية لو لم يكن هناك طرف ما تحدّث أو يتحدّث مع النظام السوري؟ مَن هو هذا الطرف؟ الروسي أم الأميركي نفسه؟

إذاً يحمل بشار الأسد مفتاحاً ينتظر مقابله ثمناً سياسياً؟ ما هو هذا الثمن، ومَن سيدفعه؟

 

مواضيع ذات صلة

روسيا ولعبة البيضة والحجر

منذ سبع سنوات كتب الأستاذ نبيل عمرو في صحيفة “الشرق الأوسط” مستشرفاً الأيّام المقبلة. لم يكتب عمّا مضى، بل عمّا سيأتي. نستعيد هذا النصّ للعبرة…

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…