خطر لرئيس حكومة تصريف الأعمال بلبنان حسّان دياب، متأخراً جداً، دعوة السفراء العرب والأجانب إلى السراي الحكومي للاستغاثة بهم، وقايةً للبنان من الانفجار الكبير أو الارتطام الذي قدّر الدكتور دياب، الأستاذ السابق بالجامعة الأميركية في بيروت، أنه سيحدث بعد أيام.
ذهب دياب في كلمته بالعربية الفصحى إلى أنه ليس من الإنصاف في شيء هذا الحصار المحكَم على البلاد من الأشقّاء والأصدقاء. وما نسي بالطبع الإنجازات الكبرى التي حقّقتها حكومته الزاهرة، التي أعاد الفشل فيها بالنتيجة إلى الحصار «إياه» أيضاً! السفراء الحاضرون تذمّروا وتكلّموا، وتقدّمتهم السفيرة الفرنسية التي هاجمت دولة الرئيس، نافيةً أن يكون الدوليون هم الذين حاصروا لبنان، وإنّما حاصره سياسيّوه الفاسدون من القمّة إلى القاع. لقد مدَّ الدوليون والعرب أيديهم لإنجاد لبنان، وفي طليعتهم الرئيس الفرنسي الذي جاء إلى لبنان مرّتين، وكذلك وزير الخارجية الفرنسي ومسؤولون كبار آخرون، بدون أن ينجحوا في فكّ حصار الفاسدين الذين يُطبقون على عنق البلاد والعباد.
بيد أنّ هذا الخلاف حول المحاصِر ما سرى حول الحصار ذاته. هناك حصار المحروقات والدواء والغذاء وخراب الليرة وأحوال المعيشة، حتى صار وباء الكورونا آخِرها بدلاً من أن يكونَ أوّلها. وهناك قرارات القضاء العدلي اللبناني الأخيرة بشأن المسؤولين عن جرائم انفجار مرفأ بيروت، الذي أدّى إلى تدمير ثلثيْه ومقتل 200 مدني وعسكري، وهدم ثلث بيروت. القاضي العدلي الجديد طارق البيطار سار على نهج زميله القديم فادي صوّان في اتّهام السياسيين وبعض الأمنيين، ووسّعه، فكان أبرز مَن اتّهم في الدفعة الجديدة مدير الأمن العام عباس إبراهيم ومدير أمن الدولة صليبا، إضافة إلى وزراء سابقين ونوّاب كانوا وزراء ورئيس حكومة تصريف الأعمال الحالي الذي حوصر من القاضي الحالي والقاضي السابق المتنحّي، في حين كان هو ينعى على العرب والدوليين حصارهم للبنان.
زعيم «حزب الله» في خطابه الأخير اتّهم الأجانب مثلما فعل حسّان دياب بالحصار، لكنه ما بدا مسروراً باتّهامات القاضي البيطار، وقال إنّ الحقيقة لا تزال مخفيّة والعدالة لا تزال بعيدة (!) على أنّه ما أنصف القاضي، لأنّ البيطار سلك مسلك زعيم الحزب في الحقيقة. إذ كان الزعيم قد قال قبل أشهر إنّ على القضاء اللبناني أن يعتبر الجريمة جريمة إهمال، لكي يستطيع المتضرّرون التوجّه إلى شركات التأمين للحصول على التعويضات. ومؤدَّى مقاربة القاضي مثل مقاربة الزعيم. هناك إهمال غير متعمّد، وهو الذي يشمل السياسيين، وهناك إهمال متعمّد وهو الذي يشمل الإداريين والأمنيين. أمّا التساؤلات الأساسية فبقيت بدون إثارة ولا أجوبة. فمَن الذي أتى بالسفينة التي تحمل نترات الأمونيوم الشديدة الانفجار إلى مرفأ بيروت بدلاً من وجهتها المزعومة إلى موزامبيق. وصحيح أنّ هناك من ادّعى على مالك السفينة فاُحتُجزت، إنّما مَن الذي أمر بإنزال الحمولة ووضعها في العنبر رقم 12 عام 2014. ومن الذي نقل 1500 طن من النترات من العنبر إلى جهاتٍ مجهولة، ومن الذي سهّل عمليات النقل طوال سنوات. ثمّ إنّ جهات قضائية ومالية دولية ذكرت من قبل ومن بعد أنّ رجال أعمال سوريين مقرّبين من الرئيس الأسد هم الذي اشتروا النترات، وكانت لديهم علاقات بالأمنيين وسلطات المرفأ المختلفة، فأمكن لهم إنزال الحمولة، ثمّ نقلها برّاً أو بحراً، فما انفجر منها غير 500 طن، ولو انفجرت كلّها لدمَّرت لبنان وقبرص. وإلى ذلك كلّه من الذي أمر بإغراق السفينة في النهاية بحجّة أنّها تالفة، وما سأل عنها أحدٌ من أصحابها الأجلّاء. وأخيراً، مَن الذي أو الذين فجّروا الخمسمائة طن فتسبّبوا في هذا الدمار الفظيع؟! إنّ الطريف أنّ زعيم الحزب هو الذي نفى أن تكون إسرائيل هي التي فجّرت، في حين كاد الرئيس ترامب ينسب ذلك إلى الإسرائيليين.
إقرأ أيضاً: قرارات البيطار: الحقيقة في مكان آخر
منذ الانفجار الهائل في 4 آب 2020، طالبت عدة أطراف لبنانية بأن تذهب الجريمة إلى القضاء الدولي، شأن ما حدث في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وكانت الحجّة في ذلك ليست أنّ القضاء اللبناني ضعيف فقط، بل إنّ ظروفه لا تسمح بقول الحقيقة وإحقاق العدالة. ولنتخيّل أنّ جريمة اغتيال الحريري عُهِد بها إلى القضاء اللبناني، فهل كنّا سنتحقّق أنّ الحزب هو الذي ارتكبها وأنّ النظام السوري شارك فيها؟! لو حدث ذلك لحدثت حروب وحروب. والكلّ يعرف كم قُتل من السياسيين ورجالات الأمن، وكم اغتيل من أُناس كانت لهم علاقة ما بالحريري أو فريقه السياسي. لقد أمكن الوصول إلى شيء بفضل القضاء الدولي، وكانت الظروف ملائمة في مجلس الأمن بحيث حصل إجماع. أمّا اليوم فلا يتصوّر أحد أن يوافق الروس والصينيّون على تحقيق دولي في جريمة المرفأ. فـ«حزب الله» صار أقوى، وكذلك النظام السوري الذي يبدو أنّه استخدم النترات في براميله المتفجّرة، وأسهم الحزب أو أنصاره في العملية. أولم يكونوا جميعاً يقاتلون في سوريا ومعهم الروس؟!
لقد ابتهج أهالي الضحايا في جريمة المرفأ لزيادة أعداد السياسيين بين المتّهمين. لكن «السيد» لم يبتهج لورود اسم مدير الأمن العام بين المتّهمين. وبالفعل فإنّ لاستخبارات الجيش والأمن العام وأمن الدولة وجوداً قوياً في المرفأ، ولذلك ورد أيضاً اسم قائد الجيش السابق. لكنّ التقارير العسكرية والأمنية توالت منذ مجيء الرئيس عون للرئاسة، والجنرال جوزيف عون لقيادة الجيش. وإذا كان الرئيس لا يُسأل، فلماذا لا يُسأل قائد الجيش الحالي على سبيل المثال؟! ولماذا لم تكن هناك مُساواة بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية فيجري تجاهلهما معاً؟ وفي حين استُدعي وزير الداخلية السابق، لم يُستدعَ وزير الداخلية الحالي! وقد أثار سخرية كثيرين دفاع الوزير الحالي الحارّ جداً عن مدير الأمن العام كأنّما هو مرؤوسٌ له، وليس العكس. ثم إنّ «الجنازة حامية والميّت كلب»، كما يقال، ما دامت القصة سترسو على أنّ المسألة مسألة إهمال لا أكثر ولا علاقة للنظام السوري ولا لزعيم الحزب بها من قريب أو بعيد.
وطن تفرّق أهله فتقسّما
ورجاله يتشاجرون على السما
والهرّ في أوطانهم يستأسد
*نقلاً عن الشرق الأوسط