اللاجئ الفلسطيني الوحيد، على الأرجح، الذي لجأ مع عائلته إلى دمشق بطائرة أقلّتهم من مطار اللدّ إلى مطار دمشق، كان أحمد جبريل. فهو، والحال هذه، لم يعرف معنى السير تحت الرصاص في مفازات الطرق ومسالكها الوعرة في خضمّ الرحيل من فلسطين إلى دنيا المنافي.
ولأنّ والدته سوريّة، ولأنّ لأخواله نفوذاً سياسياً، نال الجنسية السورية في عام 1956 في عهد الرئيس شكري القوّتلي. وأحمد جبريل، المولود في يازور المجاورة لمدينة يافا في عام 1938، والتي تتّصل جذوره العائلية بأصول شركسية، عاش حياته كلّها في دمشق، ودرس المرحلة الثانوية فيها، ثمّ التحق بالكليّة العسكرية في القاهرة، وتخرّج ضابطاً في سلاح الهندسة في سنة 1959، وخدم عند الحدود مع فلسطين.
لم يكن أحمد جبريل سياسياً فلسطينياً عابراً في سياق قضيّة فلسطين، فقد كان له، بلا ريب، حضور واسع، بسلبيّاته وإيجابيّاته، أكان ذلك في السياسة أم في العمل المسلّح أم في العمليّات الخاصّة
في تلك الأثناء، كلّما التقى ثلاثة فلسطينيّين أسّسوا مجموعة سياسية لتحرير فلسطين، ولهذا كان مجتمع الفلسطينيين في سورية ولبنان يحوي، قبل ظهور حركة “فتح” في سنة 1959، ما لا يقلّ عن أربعين مجموعة من هذا الطراز. ولم يشذّ أحمد جبريل عن هذا المنوال، فأسّس منظّمة صغيرة سمّاها “جبهة التحرير الفلسطينية”، قوامها شبّان من مخيم اليرموك. ولم يكَد العام 1963 يطلّ حتى سُرِّح من الجيش السوري لأنّه كان يزوّد أفراد مجموعته بالسلاح والذخيرة من مستودعات الجيش من دون معرفة قيادته.
لم يُعرف عنه أيّ شكل من أشكال الفكر أو الثقافة التي تتخطّى المعارف السياسية العامّة، ويبدو أنّه لم ينجذب إلى أيّ تيّار أيديولوجي، كالماركسيّة أو الفكر القومي العربي بتيّاريْه البعثي والناصري. ولعلّ ذلك عكس نفسه على تاريخ “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة”، التي لم تمتلك أيّ انحياز فكري أو رؤية مستقبليّة كتلك التي قدّمتها حركة “فتح”، مثل فكرة “الدولة الديموقراطية” أو “المرحلة النضالية” أو “الاستقلالية السياسية” أو “القرار الوطني المستقل”. ومع ذلك، فقد تبنّت الجبهة في سبعينيّات القرن المنصرم “الاشتراكية العلميّة” تحت ضغط الاتجاهات الماركسية، التي شاعت آنذاك في صفوف الفلسطينيين، الذين راحوا يقتدون أثر غيفارا وكاسترو وهوشي منه وماوتسي تونغ.
لكنّ الجبهة راحت تميل في تسعينيات القرن نفسه إلى الخطاب القومي الإسلامي، وهو خطاب تلفيقيّ أملاه صعود الإسلاميين بعد تغلغل إيران وأيديولوجيّتها الدينية في المجتمعات العربية. وكم تندّر كثيرون بالقول إنّ المجلّة الناطقة بلسان أحمد جبريل وجبهته صار اسمها “إلى الإمام” بعد ما كان “إلى الأمام”.
اشتهر أحمد جبريل بأفعاله المميّزة في الميدان العسكري، خصوصاً في ابتداع العمليات الانتحارية التي افتتحها بعملية المخالصة (كريات شمونة) في 11/04/1974، وأنهاها بعملية شهداء قبية التي نفّذها الحلبي خالد أكر بطائرة شراعية في 25/11/1987. ومع ذلك لم يشارك في معركة الكرامة في الأردن في 21/03/1968 بذريعة موازين القوى. لكنّ تلك المعركة، التي قادها ياسر عرفات وأبو إياد ورفاقهما، كانت لها نتائج تاريخية حاسمة، فقد نقلت الفدائيين من مجموعات مسلّحة إلى حركة تحرّر وطني.
لم يُعرف عنه أيّ شكل من أشكال الفكر أو الثقافة التي تتخطّى المعارف السياسية العامّة، ويبدو أنّه لم ينجذب إلى أيّ تيّار أيديولوجي، كالماركسيّة أو الفكر القومي العربي بتيّاريْه البعثي والناصري
أنقذه ياسر عرفات من الموت في 30/07/1976 في أثناء المعارك التي اندلعت مع مجموعة طلعت يعقوب وأبي العبّاس وعبد الفتّاح غانم، التي انشقّت عنه. وعلى الرغم من ذلك لم يتورّع أحمد جبريل عن الافتراء على أبي عمّار في قصّة اختفاء الإمام موسى الصدر. ولم يتردّد في قيادة هجوم منسّق مع المنشقّين عن “فتح”، أمثال أبي خالد العملة، لإحكام الحصار على ياسر عرفات في طرابلس وإسقاط مخيّميْ البداوي ونهر البارد. وارتبط اسمه بالعقيد معمّر القذّافي لسنوات طويلة، ثمّ بإيران منذ سنوات. وربّما لهذا السبب أُشير دائماً إلى صلته باختطاف الصحافي المعروف سليم اللوزي من بيروت، وتفجير طائرة البانام فوق لوكيربي، وتفجير مبنى في شارع الخرطوم في محلّة الفاكهاني في بيروت لقتل المجموعة المنشقّة التي اتّخذت إحدى طبقات هذا المبنى مقرّاً لها، وقد نجا الجميع ومات كثيرٌ من سكّان المبنى.
في سجلّه محطة مشهورة تتعلّق بتبادل أسرى مع إسرائيل في سنة 1985، عندما أطلق سراح جندييْن إسرائيليّيْن مقابل عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين والعرب. لكنّ لهذه المحطة رواية أخرى مختلفة. والحقيقة أنّ حركة “فتح” هي التي أَسَرَت الجنود الإسرائيليين في منطقة رويسة البلّوط بين بحمدون وحمّانا. وقد تمكّنت مجموعة “فتح”، التي كان يقودها عيسى حجّو، ويشرف عليها محمود العالول، من أسر ثمانية جنود إسرائيليين كانوا منهمكين في حضور إحدى مباريات كأس العالم لكرة القدم. ولكي تتمكّن “فتح” من نقل هؤلاء الجنود الأسرى عبر الخطوط العسكرية السورية، “منحت” منظمة أحمد جبريل جندييْن إسرائيلييْن لقاء استخدام سيارات المنظمة في نقل الجنود الباقين إلى البقاع. وقد بادلت “فتح” الجنود الستّة مع إسرائيل في 23/11/1983، وكان الثمن إطلاق 4600 أسير في معتقل أنصار في جنوب لبنان، وإقفال المعتقل نهائياً.
لم يكن أحمد جبريل سياسياً فلسطينياً عابراً في سياق قضيّة فلسطين، فقد كان له، بلا ريب، حضور واسع، بسلبيّاته وإيجابيّاته، أكان ذلك في السياسة أم في العمل المسلّح أم في العمليّات الخاصّة أم في علاقاته المكشوفة والمخفيّة مع معمّر القذّافي ومع السلطات السورية والإيرانية ومع حزب الله، الذي كثيراً ما غطّى الوجود العسكري العلني لـ”الجبهة الشعبية – القيادة العامة” في تلال الدامور المشرفة على الطريق الساحلية التي تربط الجنوب اللبناني ببيروت، وفي تلال قوسايا في التلال الشرقية لسهل البقاع.
إقرأ أيضاً: “صلب” سعدي يوسف: “لماذا تكون المسامير لي؟”
وفي هذا الميدان حاولت إسرائيل اعتقاله في إحدى المرّات في سنة 1986، حين أجبرت طائرة مدنية سورية آتية من طرابلس الغرب إلى دمشق على الهبوط في إحدى قواعدها العسكرية، لاعتقادها أنّ أحمد جبريل موجود على متنها، ثمّ اكتشفت أنّ معلوماتها الاستخبارية لم تكن دقيقة تماماً. وقد اغتالت إسرائيل، بأيدٍ فلسطينية، ابنه جهاد في بيروت في 20/05/2002. وها هو والده يرحل في دمشق في 07/07/2021، بعدما خلّف وراءه سيرة مستفيضة يختلف كثيرون على تقويمها وتحديد سلبيّاتها وإيجابيّاتها ومقدار العبث السياسي الذي أنتجته هذه التجربة، أو مقدار الإنجاز الحقيقي فيها.