بين لبنان الرهينة الإيرانيّة ومساعي الفاتيكان لإنقاذه، يبدو معيباً الكلام الذي صدر عن رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، والذي حذّر فيه من انهيارٍ كاملٍ، ودعا الملوك والأمراء والرؤساء العرب والمجتمع الدولي إلى مساعدة البلد “قبل فوات الأوان”. هبّت أميركا وفرنسا إلى مساعدة لبنان، ولكن عن طريق الحلول محلّ رئيس الجمهورية ميشال عون والحكومة المستقيلة، فأرسل البلدان اليوم السفيرتيْن في بيروت دوروثي شيا وآن غريّو إلى الرياض لطلب المساعدة باسم الشعب اللبناني بعد اكتشافهما أنّ الفراغ في لبنان بات على كلّ المستويات، بدءاً بقصر بعبدا، ووصولاً إلى أصغر مؤسّسة، ومروراً طبعاً بالسراي الحكومي…
عمليّاً، وُضِع لبنان تحت الوصاية، ذلك أنّها من المرّات القليلة في تاريخ العلاقات بين الدول، التي تتحرّك فيها سفيرتان في بلد ما، باسم هذا البلد وشعبه، في محاولة لإنقاذ المواطن من الجوع والبؤس والعوز والمرض قبل أيّ شيء آخر.
لم يعُد يهمّ العرب ما يحلّ بلبنان الذي عليه أن يساعد نفسه قبل أن يساعده الآخرون، على حدّ تعبير وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان
أيّ لبنان يريد دياب من العرب والعالم مساعدته وإنقاذه؟ لبنان بعمقه العربي أم لبنان الذي يتحكّم به “حزب الله”، والذي قال أمينه العامّ حسن نصرالله إنّه تابع لـ”محور الممانعة” الذي تديره إيران؟
ليس كلام حسّان دياب سوى تهرّب من المسؤولية ودليل على غياب أيّ صلة لديه بالواقع، خصوصاً أنّه يتغاضى كلّيّاً عن أنّ لبنان تحوّل رهينةً لدى “حزب الله” وسلاحه، أي لدى إيران. أكّد الحزب قبل ساعات من التحذيرات، التي صدرت عن رئيس حكومة تصريف الأعمال، إصرار إيران على أن يكون البلد “ساحةً”، بما في ذلك المجال الإعلامي. لم تعُد بيروت بحالها الراهنة سوى مدينة إيرانية على البحر المتوسط.
لم يكن الخطاب الأخير لحسن نصرالله أكثر من تأكيد لواقع يتمثّل في أنّ سلاح “حزب الله” يتحكّم بلبنان. لم يكن خطابه عن “دور الإعلام” سوى حسم نهائي لموقع لبنان الذي عليه التصرّف من منطلق أنّ انتصاراً كبيراً تحقّق في فلسطين بإطلاق “حماس” صواريخها من غزّة. لم يسأل نصرالله كيف تحقّق هذا الانتصار؟ وما الذي حدث فعلاً على أرض الواقع؟ وكيف ساهم في تحرير القدس واستعادتها؟ يرفض الاعتراف بأنّ المواطن اللبناني وصل إلى ما وصل إليه من ذلّ ليس بعده ذلّ بسبب سلاح “حزب الله”. لم يعُد طموح المواطن اللبناني العادي يتجاوز مسألة الحصول على صفيحة بنزين ورغيف وكهرباء ودواء… وتأشيرة للخروج من بلده. كيف يمكن لمواطن من هذا النوع التفكير في تحرير القدس، التي لها لحسن الحظّ أهلٌ يحمونها من داخل أسوارها ولا ينتظرون شيئاً من المتاجرين بمدينتهم.
ليس ما يدعو إلى العجب في بلد يرفض فيه شخص مثل حسّان دياب استيعاب المعادلة المعمول بها عربيّاً ودوليّاً. تقول هذه المعادلة إنّ “العهد القوي”، برئاسة ميشال عون وجبران باسيل، جعل لبنان و”حزب الله” شيئاً واحداً. أكثر من ذلك، لم يعُد يهمّ العرب ما يحلّ بلبنان الذي عليه أن يساعد نفسه قبل أن يساعده الآخرون، على حدّ تعبير وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الذي شبّه البلد بسفينة “تايتانيك” تغرق… ولكن من دون مرافقة الموسيقى. ذهب لودريان إلى أبعد من ذلك عندما حذّر من “زوال لبنان”.
التذرّع بأنّ أميركا تتحمّل مسؤولية الانهيار المالي في لبنان، فهو يكشف أنّ الأمين العام لـ”حزب الله” لا يعرف العالم ولا يعرف كيف يعمل الاقتصاد في العالم
قد يكون تفسيرٌ للّهجة الهجوميّة، خصوصاً على الإعلام وأهل الخليج، التي اعتمدها حسن نصرالله في خطابه الأخير. يمكن التكهّن بوجود سببين لهذه اللهجة. أوّلهما أن ليس لدى “حزب الله” ما يساعد به اللبنانيين، خصوصاً أبناء بيئته، في تجاوز حال الانهيار التي لا قعر لها، والتي يعاني بسببها المواطنون جميعاً. ليس لدى الحزب سوى الشعارات الرنّانة التي لا تُطعِم خبزاً ولا تأتي بدواء وصفيحة بنزين أو مازوت. أمّا التذرّع بأنّ أميركا تتحمّل مسؤولية الانهيار المالي في لبنان، فهو يكشف أنّ الأمين العام لـ”حزب الله” لا يعرف العالم ولا يعرف كيف يعمل الاقتصاد في العالم. لا يعرف الصين، التي يطلب الاستعانة بها، وما هي الشركات الصينيّة، وكيف تتعاطى هذه الشركات مع الدول التي تنفّذ فيها مشاريعها. لا يعرف روسيا وهشاشة الاقتصاد فيها، وعدم امتلاكها ما تصدّره غير السلاح الذي تمطر به أهدافاً، بمعظمها مدنيّة، في سوريا.
أمّا السبب الآخر، الذي يفسّر الحدّة التي اتّسم بها خطاب نصرالله، وحملته على الدول العربيّة في الخليج وعلى الولايات المتّحدة، فهو اللقاء الذي انعقد في الفاتيكان بين البابا فرنسيس وزعماء الطوائف المسيحية في لبنان. لم يستثنِ البابا في دعوته إلى اللقاء أيّاً من زعماء الطوائف المسيحية، مع أنّ المسؤولين في الفاتيكان يعرفون تماماً ماذا يساوي كلّ بطريرك من البطاركة، وما هي إيجابيّاته أو نقاط الضعف لديه. على رأس البطاركة الصالحين، كان بطريرك الأرمن الأرثوذكس آرام كيشيشيان الذي لعب دوراً مهمّاً ذا طابع إيجابي في عقد اللقاء الروحي بعيداً من السياسات المحليّة اللبنانية والحسابات الضيّقة لبعض أشباه السياسيين المحيطين بهذا البطريرك أو ذاك من الذين يتنطّحون لأدوار أكبر من حجمهم.
تبيّن أنّ الفاتيكان يمتلك خطّاً واضحاً يسعى من خلاله إلى إنقاذ لبنان كلّه، لا المسيحيين فقط. هناك علاقة أكثر من جيّدة وجدّيّة بين رأس الكنيسة الكاثوليكية وكبار مساعديه من جهة، والإدارة الأميركية الجديدة والدول الأوروبية، حتّى روسيا، من جهة أخرى. سمحت هذه العلاقة بتحويل لبنان إلى قضيّة نقلها الكرسي الرسولي إلى موقع قضيّة تهمّ العالم. يكفي قول البابا فرنسيس: “يجب إعطاء اللبنانيين الفرصة ليكونوا بناة مستقبل أفضل على أرضهم من دون تدخّلات لا تجوز”.
إقرأ أيضاً: تفخيخ لقاء الفاتيكان: الأسد أبرز الحاضرين
الأهمّ من ذلك كلّه أنّ نظرة الفاتيكان إلى لبنان نظرة شموليّة. ترفض هذه النظرة صفقة أميركية – إيرانيّة على حساب لبنان في فيينا. ترفض “حلف الأقلّيّات”، وتتجاوز الوجود المسيحي في المشرق إلى ما هو أبعد من ذلك. يؤكّد هذا التوجّه لقاء البابا آية الله السيستاني خلال زيارته الأخيرة للعراق، ولقاء شيخ الأزهر في أبو ظبي، وذهابه إلى المغرب للقاء الملك محمّد السادس الذي يحمل أيضاً لقب أمير المؤمنين…
هل من أملٍ أن يتوقّف الانهيار اللبناني عند نقطة معيّنة. بين لهجة حسن نصرالله الهجومية ونظرته إلى لبنان التي تكشف ضياعاً إيرانياً أكثر من أيّ شيء آخر… وبين ما حدث في الفاتيكان، يوجد بعض الأمل، على شرط توقّف الانهيار في وقت لا يزال يوجد ما يمكن إنقاذه من لبنان.