عباس بيضون يصنع الشعر من الكورونا والإفلاس

مدة القراءة 4 د

يقول بليز باسكال إنّ “شقاء الإنسان ينبع من شيء واحد، هو عدم استطاعته البقاء وحيداً في غرفة”. لكن مع الشقاء، يستطيع الإنسان الذي يبقى وحيداً في غرفة، بسبب جائحة كورونا، أن يُنتج الشعر، خصوصاً إذا كان هذا الإنسان قادراً على التفكير في الوقت بمعادلات رياضية وبهمّ رقمي، كما يفعل عباس بيضون في عزلته التي فرضتها الفايروسات.

يعيش الشاعر في غرفة، في حياة “مرقومة”. لكنّ نتيجتها لديه “تحت الصفر”، في بلاد تدهورت أرقامها في تصنيفات الاقتصاد والصحّة والاجتماع والسياسة على السواء. يعيش الشاعر، وحيداً، همّاً جماعياً. يتكوّر، كما في صورة الغلاف، داخل ساعة رمليّة، وينتظر ما تبقّى من رمال الوقت لتنهمر عليه، وتدفنه.

يعيش الشاعر في غرفة، في حياة “مرقومة”. لكنّ نتيجتها لديه “تحت الصفر”، في بلاد تدهورت أرقامها في تصنيفات الاقتصاد والصحّة والاجتماع والسياسة على السواء

تحضر الأرقام، جنباً إلى جنب مع الفايروسات، في الديوان الصادر حديثاً عن “نوفل – هاشيت أنطوان”. لا تكاد تخلو قصيدة من إشارة إلى الأرقام، وإن خلت فالفيروس حاضر لينقل إليها عدوى من نوع آخر. هكذا، ستصادفك لغة الحساب الرقمي في القصائد كما لو أنّك في “بورصة”. ستقرأ بين الكلمات الكثير من الجمل والمصطلحات القائمة على العدّ: “أعدّ خطواتي بخوف/ لكن أتابع العدّ/ لا أعرف متى يحصل الرقم المشؤوم/…/ قد يكون سقط/ بدون أن أشعر/ في ركبتي”. أو مثلاً في مكان آخر ستقرأ كلمات من مثل: “عدد، أعداد، رقم، أرقام، نعدّ، المرقومة، سعر، ثواني، وقت…”. و”للنوم أيضاً رقم/ هناك من يعدّ عنّا”، ومع ذلك “نبقى تحت رقابة الواحد”. يبرّر ذلك بالقول في نهاية قصيدة “أمثولة العدد” المهداة إلى أحمد بيضون: “في البدء كان العدد”. يهجس عباس بيضون بالعدد وبصراعه مع الفايروسات. هي منازلة بين العدد والعدوى. أرقام، فايروسات، عملات.  على هذا المنوال يحاول الشاعر أن يرفع صوته من “تحت الصفر”. هذا الصفر الذي “عاد إلى الوجود/ وكان بالطبع هائلاً حين قابل الشمس/ وحين جثم فوق الحديقة/ كان هائلاً أيضاً حين أخلى الضوء/ وأخلى الوقت/ من الدوران”. يحضر الصفر كثقل هائل، بل كظلّ، بل قل كمصفوفة تصنع الحياة من الأرقام، كما في فيلم “ميتركس”. والشاعر هو “المختار”. هو الذي عليه، في كل هذا الخراب المنظّم والمخيف، أن يعيد تشكيل الوعي بالأرقام والمعادلات، أن ينظر بعين ثاقبة واستثنائية، ميكروسكوبية، إلى الجراثيم وهي تخرج مع الأرقام على العملات الورقية من الصرّاف الآلي: “ماذا يبقى لنا/ في هذا الشارع/ سوى أن نكمن في السيّارة/ التي وحدها تبحث عن فريسة/ قد تكون في صرّاف آلي/ بضع مئات تعبت من الانتظار/ ومن معاشرة الفايروسات”.

ديوان يصدر في العام 2021 في لبنان. هو بمنزلة “كارنيه” نجاة مؤقتة. يُشهِر عباس بيضون نجاته وخروجه من تحت الركام، ليروي لنا تجربته. يُشهِر لنا شهادة “تلقيح” ضد الشقاء الذي يصنعه التكرار الذي لا ينتهي: “إنّنا نتكرّر على طول هذا اليوم”، يقول. وهذا التكرار مؤلم. و”الألم عدوى أيضاً/ نتبادله”. والجسد، جسد الشاعر، “وحيد مع نفسه”. وحيد، لكنّ “نفسه مزدحمة”. يعيش في عزلة مع أشباح مَن كانوا ومَن كان. يسأل: “كيف يمكن أن أدعو حجراً أختي؟”. يحادث الرخام الملوّث بالفايروسات: “الأجداد يمرضون في قبورهم”. يحادث الأثاث. ويمشي. يمشي وحيداً في البيت، في الشارع، في الغرفة، في البلاد. والبلاد غرفة واحدة. يمشي ويعدّ خطواته. ويحتسب كل شيء بلغة الأزمة: “إنّها سهرة الصرّاف/ مع دولار واحد/ وفايروس ينتظر في الطبق”. ستعثر في القصائد على الطوابير أمام المخازن. على المصارف وصرّافاتها الآليّة. على كمّامة عملاقة تغطي البلاد. ستشمّ رائحة سبيرتو وأنت تقرأ. ستتحسّس بقفّازات طبّية ملمس الكلمات المعقّمة: “لقد أخرجوا شاعراً من المصحّ/ وسلّموه أن يبتكر/ فايروس الجنون”.

إقرأ أيضاً: “صلب” سعدي يوسف: “لماذا تكون المسامير لي؟”

هذا الشعر يُعدي. ولا ينفع معه تعقيم. وهذا الشعر يبقى ليفكّر كالفضاء حولنا، “حيث يدور تحطيم الوقت”، بمطرقة الشعر. والألم، “سيتراجع الألم إلى الوراء”.

مواضيع ذات صلة

90 عاماً من فيروز: صوت تاريخنا… ولحن الجغرافيا

اليوم نكمل تسعين سنةً من العمر، من الإبداع، من الوطن، من الوجود، من فيروز. اليوم نحتفل بفيروز، بأنفسنا، بلبنان، وبالأغنية. اليوم يكمل لبنان تسعين سنةً…

سيرتي كنازحة: حين اكتشفتُ أنّني أنا “الآخر”

هنا سيرة سريعة ليوميّات واحدة من أفراد أسرة “أساس”، وهي تبحث عن مسكنٍ لها، بعد النزوح والتهجير، وعن مساكن لعائلتها التي تناتشتها مناطق لبنان الكثيرة…

الياس خوري: 12 تحيّة لبنانية وعربية (1/2)

العبثيّة، ثيمة تكرّرت في روايات الياس خوري بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. عبثيّة إمّا نحن نخوضها لتحرير الأرض والثورة على الجلّاد غير آبهين بحياتنا…

فيلم سودانيّ على لائحة الأوسكار… يحطّ في طرابلس

يأتي عرض فيلم “وداعاً جوليا” للمخرج السوداني محمد كردفاني الفائز بعشرات الجوائز في العالم، في مهرجان طرابلس للأفلام المنعقد بين 19 و25 أيلول الجاري في…