لبنان المنسي: فجوة زمنية من القرن الماضي

مدة القراءة 7 د

أمضى اللبنانيون قرنهم العشرين وهم يحلّون مشاكل متصرّفيّة القرن التاسع عشر، ويتعثّرون في بناء نظام سياسي يريدونه صالحاً للبنان الكبير لكن مرتكزاً على نموذج التوزيع الملّيّ في نموذج مجلس إدارة متصرفيّة جبل لبنان. فالمتصرّفية، ومن قبلها القائمقاميّتان، كانت لمعالجة، أو لمفاقمة، المشكلة بين طائفتين جبليّتين صغيرتين في نطاق السلطنة. أمّا لبنان الكبير فأقلع بنصف طاقمه العدديّ من المنتمين إلى المذهبين الأكبرين في العالم الإسلامي، أهل السنّة والجماعة والتشيّع الإمامي الاثني عشريّ. ومع هذا جرت الاستعانة بنفس أسلوب توزيع المقاعد حسب الملل المعمول به في مجلس إدارة جبل لبنان من أجل تطبيقه على الكيان اللبناني الموسّع عام 1920. وهو ما لم يحصل في أيّ كيان آخر من كيانات الشرق الأدنى التي كانت فيما مضى جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. 

أوّل الغيث للخروج من مشكلة “الفجوة” يكون في مقاربة البلد بشروط المعيوش السياسي والاقتصادي والثقافي نفسها، المقبولة في أيّ بلد من العالم

ساهم بعد ذلك تهاوي الديموقراطيات البرلمانية في الشرق العربي، المحدودة أساساً في ظل الهيمنة الاستعمارية، والمحصورة قاعدتها الطبقية في ظل هيمنة طبقة كبار الأعيان عليها، وصعود الانقلابات العسكرية، في تقديم النموذج اللبناني باعتباره نموذجاً أكثر رحابة من سواه. وهو كان بالفعل كذلك في الكثير، إلا أنّ سمة أساسيّة له كانت وراء بقائه نموذجاً يُنظر إلى أنّ أصله يعود إلى القرن التاسع عشر: توزيع ملّي كان يمكن البحث عن الحاجة إليه لحلّ مشكلة بين الموارنة والدروز، لكنّه سيتحوّل إلى شيء آخر تماماً عندما يجري توسيع الكيان، بحيث يتسبّب الانتقال إلى الثنائية المسيحية – الإسلامية، بأن يخسر الدروز موقعهم المنادِد للمسيحيين لمصلحة السُنّة والشيعة. 

حتّى الحرب الأهلية خيضت تحديداً في منطقة الجبل بروزنامة القرن التاسع عشر. وربّما كانت مأساتها هي بداية مغادرة القرن التاسع عشر في لبنان إلى القرن العشرين، وهو على وشك الانتهاء.

وها إنّ خمس القرن الحادي والعشرين قد مرّ وما زالت تستبدّ باللبنانيين معادلات ملغّزة وأقفال بمفاتيح ضائعة تنتمي إلى القرن العشرين. 

ما الذي يوحي في لبنان اليوم أنّنا في القرن الحادي والعشرين باستثناء الهواتف النقّالة الذكية الباقية ما دامت شركات الخلوي تعمل، والإنترنت يشتغل، على الرغم من تحوّل شحن بطارية الخلوي إلى هاجس غير بديهي أبداً في ظل تزايد انقطاع الكهرباء، ولا سيّما أنّه أصبح السلوى الوحيدة في طابور الانتظار والاستلاب على بعد مئات الأمتار من محطة البنزين المأمولة.

هذا غير أنّ معظم الأجهزة في أيدي الناس تعود إلى ما كان لديهم قبل الدخول في النفق منذ عامين، ومع استمرار تهاوي الليرة، وتراجع المداخيل، فإنّه حتى هذا الشكل الأخير للتواصل مع القرن الحادي والعشرين لم يعد بديهياً.

رئيسهم ورئيس نوّابهم من النصف الأول للقرن العشرين. نظامهم السياسي كان أكثر تقدّماً حين انطلق عام 1926، منه بعد ذلك. كان يُكتَفَى خلاله بالتوزيع الطائفي للمقاعد النيابية، ولا يثبت على هذا التوزيع شيء آخر. حياتهم الفكرية والثقافية؟ ديكالاج (الفجوة الزمنية) يراوح بين ربع قرن ونصف قرن من تاريخه. اليسار فيه، عندما يكون تجديدياً يصل إلى لحظة ثورة شباب 1968. اليمين فجوته أدهى. يخرج رجال الدين على شاشاته، فنتذكّر عدداً من المحطات الإصلاحية والتجديدية في المنظومات الدينية المختلفة، وكيف لا يظهر شيء منها على سحنة هؤلاء الآن وفي كلامهم.

لا يمكن استثناء لبنان من قاعدة تحقيق التوازن في الميزان التجاري بين الواردات والصادرات بحجّة أنّه محروس بعين خفيّة حتى لو كان يستورد كل شيء ولا يصدّر. كلما غادرنا أوهام الخصوصية المَسوقة في غير محلّها، بدأنا مواجهة مسألة “الفجوة” بشروط أفضل

لقد بالغ البلد في امتداح نفسه في الأعوام العشرين الأخيرة بأنّه update في كلّ شيء. لكنّ الفجوة كانت أكبر في معظم الميادين، سياسةً وثقافةً واقتصاداً. وهذه الفجوة الزمنية، أو الديكالاج مشكلة حقيقية. حتى جيل الشباب، الذي يطالب بحقّه في التداول الجيلي، معنوياً ومادياً، لم تصفِّ أفكارُه، عن الثورة، الحسابَ مع الفجوة الزمنية، بما فيه الكفاية، وتحديداً عندما يتعلّق الأمر بتحديد بديل عن النظام الاجتماعي والسياسي القائم. فتكون النتيجة الاكتفاء بإطلاقات من مثل نذهب بالزعران ونأتي بالأوادم، أو عموميّات من مثل نقل لبنان من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج.

كيف يمكن إدخال لبنان إلى القرن الحادي والعشرين اقتصادياً وثقافياً وسياسياً؟ وكيف يتخلّى عن نظام سياسي يقوم بمحدّدات القرنين الماضيين، ويخضع لرجالات ومعادلات مكرّرة من القرن الماضي؟ لأنّه بدلاً من طرح هذا السؤال، نحن الأطفال، الذين نشأنا مسيّسين في ثمانينيات القرن الماضي، نجد أنفسنا في ظروف وذهنيّات ذلك العقد من دون روحيّته.

في أوضاع أكثر سهولة، تكون هناك طبقة اجتماعية تمثّل قوى “الفجوة الزمنية” في علاقات الإنتاج وفي الثقافة، وتواجهها طبقة اجتماعية تمثّل قوى التجديد أو قوى كسر علاقات الإنتاج القائمة والتقاليد الثقافية المسيطرة.

المشكلة أنّه ليست هذه حال كل المجتمعات دائماً. وهذه مشكلة أساسية في لبنان اليوم. فتحديد مَن له مصلحة في مواجهة الديكالاج الزمني على الصعد كافّة ليس مسألةً تُحلّ مزاجياً أو إرادياً. ليست مشكلة تُحلّ مسبقاً قبل طرحها والتداول في شأنها.

المفارقة الأكثر مباشرة هنا هي أنّ اللبنانيين، وقد عاشوا منذ أواخر القرن التاسع عشر ثنائيّة مَن في البلد ومَن في المهاجر، سيعيشونها اليوم أكثر، ليس فقط من جهة النزف الحاصل باتجاه الانتشار، ولكن أيضاً من جهة وجود ديكالاج فعليّ، إذا ما استفحل الوضع هكذا لفترة طويلة زمنياً، بين لبنانيّي الدياسبورا (الاغتراب اللبناني) الذين هم جزء من القرن الحادي والعشرين، وبين لبنانيّي البلد المنكوب ذي الأزمة التموينية التي تذكِّر بالثمانينيات، والنظام السياسي الذي هو نسخة مشوّهة عن ذلك الذي كان قائماً في الثلاثينيات، مع رؤساء من مواليد الثلاثينيات، وأحزاب تفاخر بأنّها “عريقة” معتّقة، كما لو كانت زجاجات نبيذ، في ظل صعوبة الاقتناع بالأحزاب الجديدة.

وهذه سمة أساسية للفجوة الزمنية: “حياة سياسية بلا أحزاب”. هذه مشكلة. وأحزاب منتمية كلياً للقرن الماضي، هذه أيضاً مشكلة. والمشكلة تتضاعف حيث إنّك لا يكفي أن تقدّم نفسك ظريفاً وcool وعصرياً كي تكون خفّفت من مشكلة الفجوة الزمنية بين زمن البلد التائه أو المترنّح أو المحتبس، والقرن الحالي، وهو أيضاً قرن يواجه مشكلة تباطؤ في التبادل السلعي في السنوات الأخيرة بسبب أزمة كورونا، من بعد إفراط في تسارع إيقاع الحياة.

إقرأ أيضاً: دع شعبي يذهب: محنة التثوير

أوّل الغيث للخروج من مشكلة “الفجوة” يكون في مقاربة البلد بشروط المعيوش السياسي والاقتصادي والثقافي نفسها، المقبولة في أيّ بلد من العالم. توهّم الخصوصيّات في كلّ شيء هو جزء من النكبة الحالية الشاملة. هناك درجات مختلفة من الديموقراطية، لكن ليس هناك ديموقراطية غير مبنية على المساواة القانونية بين المواطنين، وتحديداً بينهم حين يكونون ناخبين. لا يمكن استثناء لبنان من هذا مثلما لا يمكن استثناؤه من أشياء كثيرة. لا يمكن استثناؤه من قاعدة تحقيق التوازن في الميزان التجاري بين الواردات والصادرات بحجّة أنّه محروس بعين خفيّة حتى لو كان يستورد كل شيء ولا يصدّر. كلما غادرنا أوهام الخصوصية المَسوقة في غير محلّها، بدأنا مواجهة مسألة “الفجوة” بشروط أفضل.

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…