يجتمع اليوم في الفاتيكان رؤساء الكنائس المسيحية في لبنان مع قداسة البابا فرنسيس، الذي كان أعلن عن هذا الاجتماع في الثلاثين من أيار الماضي، وقال إنّه سيكون فرصة “للصلاة معاً من أجل نعمة السلام والاستقرار”. وأعلن البابا أنّه يسعى إلى بحث الوضع المثير للقلق في لبنان، الذي يشهد أسوأ أزمة يمرّ بها منذ الحرب الأهلية التي انتهت عام 1990.
وكان البابا فرنسيس قد وعد بزيارة لبنان إذا اتفق ساسته المنقسمون على حكومة جديدة، وقال في عظته الأسبوعية التي ألقاها أمام الزوّار والسياح في ساحة القديس بطرس: “سألتقي في الفاتيكان في الأول من تموز بالقادة الرئيسيين للجماعات المسيحية الموجودة في لبنان، من أجل يوم تأمُّل يتعلّق بالوضع المقلق في البلاد، وللصلاة معاً من أجل عطيّة السلام والاستقرار…”، بحسب ما نقل موقع “فاتيكان نيوز” باللغة العربية. وأضاف البابا بحسب الموقع نفسه: “ومنذ هذه اللحظة أطلب منكم مرافقة الاستعداد لهذا الحدث بصلاة تضامنيّة، وتمنّي مستقبل أكثر سلاماً لهذا البلد الحبيب”.
يلفت بعض المراقبين إلى مسألة محورية تتعلّق بجنسية معظم رؤساء الكنائس المدعوّين إلى اللقاء. إذ إنّ ثلاثة منهم لبنانيون فقط، واثنين منهم عراقيان، في حين أنّ الباقين سوريون. وهذا سيؤثّر بطبيعة الحال على مواقفهم من موضوع الاجتماع
تأتي دعوة البابا في وقت لا يزال لبنان يعاني تداعيات الانفجار الهائل الذي وقع في مرفأ بيروت العام الماضي، وأودى بحياة أكثر من مئتيْ شخص وآلاف الجرحى، وتسبّب بدمار هائل فاقم الوضع الاقتصادي السيّء الذي يواجه الانهيار بالفعل. ومعظم المناطق المتضرّرة يسكنها مسيحيون. وتأتي أيضاً في سياق الأزمة السياسية الحالية المتمثّلة بالخلاف المستمرّ منذ شهور بين رئيس الوزراء المكلّف سعد الحريري والرئيس ميشال عون بشأن المناصب الوزارية.
لنتذكّر أنّ الحريري الذي تولّى رئاسة الوزراء ثلاث مرّات، واستقال في 2019 بعد احتجاجات خرجت في أنحاء البلاد ضد النخبة السياسية التي اتّهمها المتظاهرون بالمسؤولية عن دفع البلاد إلى الأزمة، ثمّ كُلّف في تشرين الأول بتشكيل حكومة من دون أن يتمكّن من إنجاز المهمّة حتّى الآن، كان قد زار الفاتيكان في نيسان الماضي. وقال بعد لقائه البابا فرنسيس إنّ “البابا أبلغه بأنّه سيزور لبنان، لكن بعد تشكيل حكومة”. يشير هذا الكلام إلى عدم رغبة الكرسي الرسولي بتقديم الدعم لفرقاء الطبقة السياسية ما داموا مستمرّين في الأداء الخلافي والتعطيل المتبادل الذي أوصل البلاد إلى هذه المرحلة.
سيشارك في هذا اللقاء عشرة قادة روحيين، هم رؤساء أو مسؤولو الكنائس، أي البطاركة الكاثوليك والبطاركة الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس والأرمن الأرثوذكس، إضافةً إلى مسؤولي الكنائس الإنجيلية.
وقد أجرى عددٌ منهم جولة اتصالات مع شخصيّاتٍ سياسيّة، كلٌّ في طائفته، للتشاور في المواضيع التي يجب أن تُناقَش في الاجتماع. وزار بعضهم مرجعيات سياسية كما فعل رئيس الكنيسة الإنجيلية في سوريا ولبنان القسّ جوزيف قصب الذي زار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
يلفت هنا بعض المراقبين إلى مسألة محورية تتعلّق بجنسية معظم رؤساء الكنائس المدعوّين إلى اللقاء. إذ إنّ ثلاثة منهم لبنانيون فقط، واثنين منهم عراقيان، في حين أنّ الباقين سوريون. وهذا سيؤثّر بطبيعة الحال على مواقفهم من موضوع الاجتماع، ألا وهو الوضع اللبناني.
في هذا الإطار، تكفي مراجعة سلسلة مواقف رؤساء الطوائف الأبرز بينهم خلال السنوات الماضية، وخاصة تأييدهم العلني للنظام السوري في حربه المستمرّة. وقد سأل مواكبون للملفّ عن مدى صوابية الأخذ برأي أكثرية هؤلاء القادة الروحيين بشأن الوضع في لبنان في ظلّ قربهم من نظام بشّار الأسد الذي يجري الحديث عن أنّه قد يلعب دوراً سياسياً متجدّداً في لبنان على وقع مهادنة دول الخليج العربية له.
قد لا يصدر عن الاجتماع بيان مشترك، إلا أنّ قداسة البابا سوف يعلن رؤيته الخاصة، من دون معرفة إذا كانت ستتضمّن الأخذ بأيّ من الاقتراحات أو الأفكار التي قد يتقدّم بها المشاركون
تدرك دوائر الفاتيكان هذا الأمر من دون شك، وهذا ما انعكس على تنظيم جدول الأعمال الذي يبدو أنّه تمّ إعداده بشكل يراعي حرّية كلّ من القادة الروحيين بالمشاركة بآرائهم وطروحاتهم. وفي المقابل، سيكون كلام البابا فرنسيس في نهاية الاجتماع معبّراً عن رؤية الفاتيكان للأمور.
الأب عبدو أبو كسم، رئيس المركز الكاثوليكي للإعلام، كان قد أوضح في حديث صحافي أنّ برنامج العمل قسم “يوم الصلاة والتفكير من أجل لبنان” إلى جزئين:
– الأول مخصّص لاجتماع قداسته مع القادة الروحيين المسيحيين للتفكير والتأمّل ومناقشة الوضع العام في البلاد. وخلال اللقاء مع قداسته سيحمل كلّ من البطاركة ورؤساء الكنائس المسيحية ورقة بيده يطرح فيها الهواجس والمشاكل ورؤيته للحلول، وسيكون للبابا فرنسيس كلمة ختامية. أمّا في ما يتعلّق بالبطريرك الراعي فسيضمّن ورقته مواقفه التي يُعرب عنها في عظاته ومداخلاته.
– أمّا الجزء الثاني فسيُخصّصه البابا فرنسيس والبطاركة والمسؤولون عن الكنائس للتأمّل والصلاة. وستشهد الصلاة الختامية في كاتدرائية الفاتيكان مشاركة سفراء الكرسي الرسولي والجماعات المشرقية الموجودة في الفاتيكان من رهبانيات وإرساليات، إضافةً إلى العلمانيين اللبنانيين المقيمين في روما.
قد لا يصدر عن الاجتماع بيان مشترك، إلا أنّ قداسة البابا سوف يعلن رؤيته الخاصة، من دون معرفة إذا كانت ستتضمّن الأخذ بأيّ من الاقتراحات أو الأفكار التي قد يتقدّم بها المشاركون.
وكان أمين سر دولة الفاتيكان للعلاقات مع الدول (وزير الخارجية) المطران بول ريتشارد غالاغر قد أوضح أنّ غاية الاجتماع هي مساعدة لبنان من أجل “الحفاظ على هويّته الفريدة، وضمان شرق أوسط متعدّد ومتسامح ومتنوّع”، ومن أجل تحقيق “التعافي الاقتصادي والابتعاد عن الصراعات الإقليمية”. لكن لم يتّضح حتى الآن ما المقصود بـ”الابتعاد عن الصراعات الإقليمية”: هل هو شكل من أشكال الحياد الذي دعا إليه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي أم لا؟
سيكون من بين أبرز المشاركين بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر لِما يمثّله الحضور الأرثوذكسي من طابع “مسكوني” للاجتماع، ولأنّ كنيسة الروم الأرثوذكس تضمّ العدد الأكبر من المؤمنين في لبنان وسوريا مقارنة مع الكنائس الأخرى. وقبل سفره كان اليازجي قد عقد اجتماعاً مع مطارنة الطائفة في لبنان، وعلى رأسهم مطران بيروت إلياس عودة، ثمّ جال على المرجعيات الدينية الإسلامية في لبنان.
إقرأ أيضاً: الحكاية الأرمنية للقاء الفاتيكان حول لبنان
لكنّ اليازجي استبعد المطران عودة عن الوفد الذي سيرافقه إلى الفاتيكان، واستبدله بمطران جبل لبنان سلوان موسي. وقد أثار هذا الغياب أو التغييب أسئلة في أوساط الطائفة في بيروت، ووضعها بعض المتابعين في إطار حرص البطريرك اليازجي على مراعاة الجانب السوري، الذي لا يكنّ لعودة مودّة كبيرة بسبب “مواقفه السياسية اللبنانية”.
تنتظر تحدّيّات كبيرة اجتماع الفاتيكان بالحاضرين المختلفين بمقارباتهم السياسية. هل يعوّض حضور البطريرك الراعي عن غياب عودة؟ وهل يستطيع الراعي اختصار الأزمة اللبنانية الحقيقية وسط وفد البطاركة الأقرب إلى دمشق؟
هو تحدٍّ تدركه الفاتيكان جيّداً.
لننتظر ونرَ ما ستكون أجواء اللقاء المنتظَر في الساعات المقبلة.