حتى في عزّ أزمتهم أو ضعفهم، يبقى السُنّة عتاة الاعتداد بالنفس. ينطلقون من خلفيّة عميقة مداها هذا الاتّساع الأكثريّ الهائل. فهم أصحاب المنطقة والأرض والثروات بأكثريّتهم، وهم أصحاب نظرية الدولة الوطنية والانتماء إليها. وربّما من كثرة الإفراط بالثقة بالنفس ضاعت منهم أحلام وتمزّقت أمام أعينهم دول.
لماذا؟
الجواب بكلّ بساطة: لأنّ الثقة بالنفس المقرونة بالكسل السياسي تدفع إلى مثل هذه النتائج. وبما أنّ الثقة تبقى موجودة، لا يبدون خائفين على مصيرهم الاستراتيجي، وليس ما يحفّزهم على حذوِ حذوَ الأقليّات في العمل بأيّ طريقة لبلورة الوجود وصناعة الدور والتأثير.
تقول شخصية سياسية بارزة مؤيّدة للحريري إنّه لا بد من التفكير بطريقة مختلفة، فلم يعد من مجال للحسابات الشخصية ولا للصراع الذي يأخذ بعداً شخصيّاً، لأنّ هذا الصراع سينطوي على مخاطر كثيرة في المستقبل
لهذه المقدّمة هدف معيّن، وهو نقاش فكرة التنازل من عدمها. وعلى الرغم من أنّها في أحيان كثيرة تنجم عن خطأ وتُنتِج خطايا. لكن بالعودة إلى نظرية التنازل السياسي، فيقدم عليها مَن هو معروف بالمبادرة السياسية بلا شكّ، ومَن يحاول صناعة الحدث، ويكون واثقاً بنفسه. وكانت هذه النظرية تصحّ على السُنّة في لبنان، وعلى الرئيس سعد الحريري تحديداً. لكنّ الخطأ في ذلك هو الخطيئة في ممارسة ما بعد التنازل.
بمعنى أوضح: فلنسلّم جدلاً بنظرية تنازل السنّيّ القويّ للمسيحي القويّ عن الحقّ بالمشاركة في انتخاب رئيس الجمهورية، بعد ما اعترف به هذا الطرف من وجود “إجحاف” بحقّ المسيحيين طوال العقود الماضي. ودخل ميشال عون إلى بعبدا وفق نظرية “الرئيس القوّي في بيئته”.
الخطأ وقع بعد هذه الواقعة، وتحديداً بالممارسة السياسية التي أدّت إلى الإطاحة بكل الامتيازات التي تمّت مراكمتها على صعيد الوحدة الوطنية والدستور واتفاق الطائف والصلاحيّات التي وزّعها اتفاق الطائف على مجلس الوزراء مجتمعاً، بدل أن تكون محصورة بيد رئيس الجمهورية.
أما وقد أصبحت المعادلة في مكان آخر، فأصبح النقاش حاليّاً يدور حول تنازل الحريري مجدّداً في عملية تشكيل الحكومة أو اعتذاره. لكنّ أحد الخيارين سيكون أسوأ وأصعب من الآخر. وهو التنازل في سبيل تشكيل حكومة لن تكون منتجة، وستعيد تعويم جبران باسيل، وستكرّس سوابق وأعرافاً في آلية تشكيل الحكومة. أمّا الاعتذار فسيتضمّن أيضاً أزمة تكليفٍ منحه المجلس النيابي للحريري، ونجاح رئيس الجمهورية بتجاوزه ودفع الرئيس المكلّف إلى الاعتذار. هذه ستكون سابقة بلا شكّ، ولكن بالإمكان تصحيحها بناء على الممارسة السياسية الصحيحة والواضحة. وخلف ذلك أسباب كثيرة أيضاً.
أوّلاً: من الثابت أنّ رئيس الجمهورية لا يريد الحريري رئيساً للحكومة، وهو سيبقى متسلّحاً بتوقيعه في سبيل منع تشكيل الحكومة.
ثانياً: لا يمكن لعون أن يوافق على حكومة برئاسة الحريري بدون الموافقة على شروط جبران باسيل وعلى رغبته في تعويمه بإعطائه “الثلث المعطِّل” الذي يعني الإمساك بقرار الحكومة والتحكّم بجلساتها وانعقادها.
ثالثاً: لا بدّ من التفكير على المديين المتوسّط والبعيد، خصوصاً في ظل الصراع المفتوح على الصلاحيّات، والممارسات التي يقوم بها رئيس الجمهورية وكأنّه حاكم بأمره وصاحب صلاحيّات مطلقة. وستكون لذلك أبعاد متعدّدة سياسية ودستورية في المستقبل.
النقاش حاليّاً يدور حول تنازل الحريري مجدّداً في عملية تشكيل الحكومة أو اعتذاره. لكنّ أحد الخيارين سيكون أسوأ وأصعب من الآخر. وهو التنازل في سبيل تشكيل حكومة لن تكون منتجة، وستعيد تعويم جبران باسيل
أمام هذه الوقائع تقول شخصية سياسية بارزة مؤيّدة للحريري إنّه “لا بد من التفكير بطريقة مختلفة، فلم يعد من مجال للحسابات الشخصية ولا للصراع الذي يأخذ بعداً شخصيّاً، لأنّ هذا الصراع سينطوي على مخاطر كثيرة في المستقبل. فعون يرضي نفسه بإدارة كل شؤون الدولة، بعقد اجتماعات مالية واقتصادية، ودعوة المجلس الأعلى للدفاع إلى الانعقاد، ولقاءاته الثنائية مع الوزراء، والاتصال بالمديرين وتوجيههم. وبذلك يكون هو الذي يحكم الدولة بشكل كامل ويديرها ويربطها بشخصه. وبذلك سيقول إنّه نجح في استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية، ونجح في إدارة الدولة بدون مجلس وزراء”.
ما يساعد عون على هذه الممارسة، وفق ما يقول المسؤول السياسي الكبير، هو اعتكاف رئيس الحكومة المستقبل حسّان دياب. وهو في الأساس ليس شخصية كان يُفترض أن تتبوّأ هذا المنصب. وجوده بحد ذاته ضرب للسنّة ولمواقعهم وصلاحياتهم، وجزء من المعركة المفتوحة لإضعافهم، وبالتالي لا يمكن التوقّع من دياب القيام مقام صانع التوازن في السلطة مع عون.
والأهمّ، وفق هذه الشخصية، أنّه لا بدّ من اعتذار الحريري على الرغم من أنّه تنازل مكلف، لكن سياسياً مقدور عليه بناء على سياسة يمكن انتهاجها، تقوم على المعارضة الشرسة لعون، ووضع وإرساء الأسس لإعادة التوازن معه في السلطة.
تنصح الشخصية الحريري بالتوافق مع نبيه بري للاعتذار، والاتفاق على شخصية يتم تكليفها بتشكيل حكومة، تكون قادرة على تشكيل قوة توازن مع عون، خصوصاً أنّه لا بدّ من التفكير على مدى أبعد ووضع احتمالات متعدّدة: ماذا لو استمرّت حكومة حسان دياب حتى الانتخابات النيابية؟ وكيف تدار هذه الانتخابات؟ وماذا لو حصلت أسباب أو خُلِقت ذرائع متعدّدة أدّت إلى تأجيل الانتخابات؟ هل يعتقد أحد أنّ عون سيغادر القصر الجمهوري إذا مُدِّد للمجلس النيابي؟
إقرأ أيضاً: أهل السُنّة والمسار الوطنيّ: الإجماع على الإعتذار؟
إنّ ذلك لن يحصل، وعون سيقول إنّه لا يمكن أن يسلّم البلاد إلى مجلس نيابي مطعون بشرعيّته، وكما يسري التمديد على المجلس النيابي، فإنّ منع الفراغ عن موقع رئاسة الجمهورية هو واجب. وسيُقال أيضاً إنّ رئيس الجمهورية القوي لا يمكن أن يسلّم الموقع الأول في الدولة للفراغ، إذا لم يُنتخَب رئيس للجمهورية. لذا لا بدّ من التفكير منذ الآن في ضرورة وجود حكومة قادرة على تشكيل قوة توازن مع عون.