هكذا يُصنَع رئيس الوزراء في العراق (2/3)

مدة القراءة 5 د

تتواضع جميع الأطراف المعنيّة بالساحة العراقية، الخارجية والداخلية، على أنّ الأزمة الحكومية بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي، والحوارات والنقاشات والصراعات التي سيطرت على المشهد العراقي على مدى أكثر من ثمانية أشهر، لم تستقرّ إلا بعد التوصّل إلى تفاهمات دولية بين واشنطن وطهران، وداخلية بين القوى والمكوّنات السياسية، على تمرير المرحلة الانتقالية التي تسمح بإخراج الأزمة، التي وصل إليها العراق، من عنق الزجاجة، خاصة في ظلّ استمرار حركة الاحتجاج الشعبي في الشارع، أو ما بات يُعرَف بالحراك التشرينيّ المطالِب بالتغيير الجذري، وما أدى إليه من صراع ومواجهات دمويّة بينه وبين القوى والأجهزة الأمنيّة التابعة للحكومة الرسمية.

كان الموقف الإيراني أكثر وضوحاً في عدم الانجرار إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع الجانب الأميركي على الأرض العراقية، خاصة في الأشهر الأخيرة لرئاسة دونالد ترامب، لاعتقاد طهران بأنّ ترامب وفريقه يسعيان إلى جرّ المحور الإيراني إلى معركة عسكرية

وإذا ما كانت بعض قوى تشرين وكيانات سياسية وحزبية تنتمي إلى المحور الإيراني، تتّهم رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي بلعب دور سلبي في عرقلة آليّات اختيار رئيس وزراء خلفاً لعبد المهدي من خلال جماعات ضغط تابعة له زرعها بين صفوف المحتجّين، مستخدماً موقعه حينها على رأس جهاز الاستخبارات العراقي، إلا أنّ هذه القوى وجدت في الحلّ، الذي جعل الكاظمي خياراً وسطياً وتسوويّاً للأزمة الحكومية، الوسيلة التي يمكن أن تكبح الانهيار الذي بدأ يهدّد العملية السياسية ويرفع من مخاطر الانفجار الأمني والعسكري. ورأت فيه مدخلاً لإفراغ الشحنة الاعتراضية والنقمة الشعبية على القوى الحزبية وسياسات التقاسم والمحاصصة والفساد المنظّم التي هيمنت على مؤسسات الدولة وإداراتها، خصوصاً أنّ التطوّرات على الأرض كانت تشير إلى وجود أرضيّة بين المعترضين للقبول به ممثّلاً لها أو لجزء منها في مواجهة الأحزاب المهيمنة.

وقد تحوّل الكاظمي إلى خيار وسطيّ بين جميع القوى المنتمية إلى المحور الإيراني أو المعارضة له، على قاعدة أنّه يأتي من خارج السياقات التي تم التوافق عليها في العراق الجديد ما بعد 2003، ويمكن أن يدير المرحلة الانتقالية التي تحكمها ثلاثة عناوين رئيسة هي: إقرار قانون جديد للانتخابات يمهّد لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، ومحاسبة الجهات التي قتلت المعترضين، وبسط هيبة الدولة وسيادتها ومحاكمة الفاسدين.

تحوّل الكاظمي إلى خيار وسطيّ بين جميع القوى المنتمية إلى المحور الإيراني أو المعارضة له، على قاعدة أنّه يأتي من خارج السياقات التي تم التوافق عليها في العراق الجديد ما بعد 2003، ويمكن أن يدير المرحلة الانتقالية

وقد انطلقت دوافع القوى العراقية للقبول بالكاظمي على رأس السلطة التنفيذية، من خلفيّات متناقضة أو متعارضة. فالمحور الإيراني رأى في الكاظمي أهون الشرّين قياساً إلى التحدّيات التي كان سيواجهها إذا نجح رئيس الجمهورية برهم صالح في تمرير خيار تكليف عدنان الزرفي، خصوصاً أنّ هذه القوى لا تملك مساحات مشتركة للتفاهم معه، وتعتبره نقيضاً لها في خياراته التي تضعها في الخانة الأميركية الخالصة. في حين رأت القوى المعارضة في الكاظمي فرصة لفرض شراكتها المقرِّرة، والحدّ من تمادي نفوذ الأحزاب الموالية لإيران وتحكّمها، بما يتيح لها الحدّ من هيمنتها ومواجهة المعادلة التي تسعى الفصائل المسلّحة والحشد الشعبي إلى فرضها في الحياة السياسية.

وغير بعيد من المعادلات الداخلية في صراع الأطراف، فإنّ الطرفين الخارجيّين المؤثّرين والنافذين على الساحة العراقية، الولايات المتحدة وإيران، لم يكونا بعيدين عن ضرورة التفاهم على نقطة وسط تسمح لهما بتحقيق الحد الأدنى من مصالحهما من دون أن تكون غلبة لطرف على آخر، خصوصاً أنّ كلا الطرفين لم يكن لديهما الرغبة حينها ولا يريدان الدخول في مواجهة مباشرة قد تؤدّي إلى انفلات أمني وعسكري قد تصعب السيطرة عليه.

وقد كان الموقف الإيراني أكثر وضوحاً في عدم الانجرار إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع الجانب الأميركي على الأرض العراقية، خاصة في الأشهر الأخيرة لرئاسة دونالد ترامب، لاعتقاد طهران بأنّ ترامب وفريقه يسعيان إلى جرّ المحور الإيراني إلى معركة عسكرية تسمح لواشنطن بتغيير المعادلات الإقليمية بشكل حاسم، إضافةً إلى أنّ أيّ معركة خارج الحسابات الدقيقة أو الانزلاق إلى معركة في التوقيت الذي يريده ترامب سيعنيان للجانب الإيراني خسارة الرهانات على إمكان الحوار مع الإدارة المقبلة. وهو ما تبلور لاحقاً بعد وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، والتفاهم غير المعلن الذي حصل بين الطرفين على ضرورة تحييد العراق عن الصراع بينهما، ومساعدة حكومته لإعادة ترميم الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية.

إقرأ أيضاً: العراق ولعبة التوازنات (1/3): الكاظمي أهون الشرين

جعلت المعادلات الداخلية والإقليمية والدولية من الحكومة العراقية، التي جاءت بعد أزمة ساحات الاعتصام، حكومة “غير قائمة بذاتها”، أي أنّها رهينة باستمرار المعادلات التي أوصلتها، وهو ما جعلها خاضعة لابتزاز كل الأطراف التي ساهمت في تشكيلها. وحسب قول الشخصية الأبرز في دولة القانون، بعد زعيمها نوري المالكي، عضو لجنة الأمن والدفاع البرلمانية كاطع الركابي، في معرض ردّه على سؤال لـ”أساس” عمّا يتعرّض له الكاظمي من هجوم بعض الأطراف عليه من باب الابتزاز السياسي، إنّ “الكاظمي يُبتَزّ منذ زمن، وقد حصلوا على كل شيء منه وكلّ ما يريدونه، ولم يبقَ شيء للابتزاز”. وهو وضع قد يصدق عليه قول الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري في وصف الحالة العراقية والعربية عام 1983، عندما قال:

لم يبـــقَ عنديَ ما يبتـزّهُ الألمُ

حَسبي من الموحشاتِ الهــمُّ والهـرَمُ

لم يبــــقَ عندي كفـاءَ الحادثـات أسىً

ولا كفاءَ جراحاتٍ تضــجُّ دمُ

وحين تَطغَى على الحرّان جمرتُهُ

فالـصمتُ أفضلُ ما يُطوَى عليه فمُ.

 

غداً في الحلقة الثالثة: ضعف الكاظمي في مصادر قوّته (3/3)

 

مواضيع ذات صلة

خشية غربيّة من جولة تصعيد جديدة

إذا لم تُثبت التطوّرات عكس ذلك، فإنّ الأوساط الدبلوماسية الغربية لا ترى في مسوّدة الاتّفاق الذي صاغة الموفد الأميركي آموس هوكستين وقدّمته السفيرة الأميركية لدى…

قيس عبيد: شبحُ مغنيّة الذي حملَ الجنسيّة الإسرائيليّة

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

بين لاريجاني وليزا: الحرب مكَمْلة!

دخلت المرحلة الثانية من التوغّل البرّي جنوباً، التي أعلنها الجيش الإسرائيلي، شريكة أساسية في حياكة معالم تسوية وقف إطلاق النار التي لم تنضج بعد. “تكثيفٌ”…

هل تملأ مصر فراغ التّسليم والتّسلّم؟

يترنّح المسار التفاوضي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في عدوانها الوحشي بحقّ لبنان. في الأثناء، يواظب الموفد…