كنّا، وكلّما استمعنا لأحدهم يدلو بدلوه عن حتميّة عودة سوريا إلى لبنان، نردّ بابتسامة سريعة تختزن ما تيسّر من اللامبالاة. ثمّ إذا ما احتدم النقاش وأصرّ القائل على القول، نجنح نحو القطع والتعليل بسرديّة لا تُفارقها العُجالة، تبدأ من استحالات سياسية واجتماعية بوجه كلّ المحاولات التي ترمي إلى تزويق البشاعة، ولا تنتهي باستحالات أخلاقية تركن في نهاية المطاف إلى الخلاصة عينها: لَجذعُ نعل أصغر طفل قُتل في سوريا أشرف من هذا النظام وأزلامه وزبائنيّته وكلّ مَن يُحابيه أو يناصره.
لكنّ ما كان همساً صار دندنة. وما كان يُحكى في الصالونات والمجالس المغلقة، صار في الصحف وعلى الشاشات، ومَن كانوا يحجّون إلى دمشق تحت جنح الظلام، صاروا يهرولون نحوها في العلن.
معلومات “أساس” أنّ النظام السوري عرض على زوّاره ثلاثة عروض، شرط أن يأتي الطلب رسمياً من الدولة اللبنانية، بعدما وصفهم بأنّهم جبهة
تقول الرواية المشؤومة إنّ ثمّة اتّفاقاً في طور الولادة، ترعاه روسيا وتطبخه، ويحظى بموافقة أميركية وعربية، وليست تُعارضه إيران. هذا الاتفاق يقوم، بحسب الرواة، على تطويق النفوذ الإيراني المتعاظم في سوريا لحساب الأرجحيّة الروسية، مقابل بعض المكاسب التي لا بأس بها، فيما يلعب النظام السوري دور ضابط الإيقاع في العملية السياسية اللبنانية، باعتباره أكثر الأطراف قدرة على فهم التعقيدات الداخلية، ناهيك عن يده الطولى عبر أزلامه وحلفائه، الذين باتوا يمسكون المعادلة الداخلية من رقبتها.
يسوق هؤلاء ثلاثة شواهد لتوكيد نظريّتهم تلك:
أوّلها: سياسات الانفتاح التي بدأها العرب تجاه سوريا، بما فيها محاولات إعادتها إلى مقعدها الشاغر في جامعة الدول العربية، والتي أوقفت الإدارة الأميركية تمادي الحماسة العربية للعودة إلى الجامعة أو إعادة فنح سفارات هذه الدول في دمشق.
ثانيها: الزيارة العلنيّة اللافتة لوفد رفيع المستوى ضمّ سبعة أحزاب لبنانية محسوبة أو مقرّبة من سوريا، ولقاؤه وزير الخارجية فيصل المقداد، في سابقة هي الأولى منذ أكثر من سبع سنوات.
ثالثها: حديث وليد جنبلاط عن دور حافظ الأسد في حماية الجبل، إضافةً إلى الرسالة السياسية الواضحة من الاجتماع الدرزي المرتقب في دارة طلال أرسلان، مع ما يعنيه ذلك من إشارة إلى قدرة الرجل المعروفة على استشراف الرياح الدولية والإقليمية قبل هبوبها.
بعيداً من الإدراج المقصود لهذه الشواهد المترامية في غير سياقها، وبعيداً أيضاً من الموقف المسبق تجاه النظام السوري، صار لزاماً علينا أن نناقش الموضوع من منظار الواقع والوقائع، وأن نتمحّص المتاح من عدمه، وأن نطرح سؤالاً بسيطاً ونجيب عليه: هل ثمّة أفق لعودة النظام السوري إلى حكم لبنان؟
الزيارة العلنيّة اللافتة لوفد رفيع المستوى ضمّ سبعة أحزاب لبنانية محسوبة أو مقرّبة من سوريا، ولقاؤه وزير الخارجية فيصل المقداد، في سابقة هي الأولى منذ أكثر من سبع سنوات
الجواب البديهي: هل هو قادر أصلاً على حكم سوريا؟
يكفي فقط أن نلقي نظرة سريعة على خارطة النفوذ السياسي والجغرافي، من روسيا إلى إيران وتركيا وإسرائيل والمعارضة والأكراد وغيرهم، ويكفي أيضاً أن نستعيد ما نقله نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف عن لسان الأمين العام لحزب الله، حيث أشار إلى أنّ تدخّله العسكري في سوريا جاء بعد خطر جدّي بسقوط دمشق تماماً في يد المعارضة.
عمليّاً، النظام السوري واجهة لتقاطعات وتشعّبات كثيرة، وهو لم يعُد يملك أمر نفسه وسياساته وتحرّكاته منذ أحكمت روسيا وإيران قبضتهما على كلّ مفاصل الدولة العميقة، بما فيها الجيش والاستخبارات والتوازنات السياسية والعسكرية والاجتماعية. لذا فإنّ أيّ اتفاق على خروج إيران من سوريا، مقابل نفوذ روسيّ مطلق، دونه معوّقات كثيرة، لكنّه يظلّ قابلاً للتطبيق وفق معادلة توزيع الأدوار وحفظ المكتسبات، بيد أنّ ما يصحّ في سوريا، لا يستقيم إطلاقاً في لبنان.
أمّا إذا سلّمنا جدلاً أنّ النظام السوري العاجز والضعيف سيكون مجرّد واجهة شكليّة للنفوذ الروسي في لبنان، فدون ذلك صعوبات ليست بالعابرة، أولاها مع إيران نفسها، التي وإن تنازلت عن دورها الوازن في سوريا، فمن شبه المستحيلات أن تقبل بذلك في لبنان، خصوصاً بعدما أطبقت قبضتها على كلّ مفاصله عبر ذراعها العسكري الذي يُشكّل امتداداً أكيداً لحرسها الثوريّ ولمشروعها العابر للجغرافيا والخرائط.
تُضاف إلى هذه المعضلة مُعضلات شتّى، مع أميركا أوّلاً، ومع أوروبا ثانياً، ومع ملفّ النفط والغاز ثالثاً ورابعاً وخامساً، ومع الكثرة الكاثرة من اللبنانيين أنفسهم حتى ينقطع النفس، حيث إنّ ذاكرتهم الجماعية لا تزال طريّة وحديثة العهد بممارسات هذا النظام على مدى عقود طويلة، وهذا بطبيعة الحال سيساهم في إشعال البلد، بدلاً من تهدئته واستقراره.
أكثر ما يبعث على القلق في كلّ هذه التطوّرات، هي زيارة وفد قوى 8 آذار إلى دمشق، وهذا ما يُعطي انطباعاً ناجزاً عن الاستعداد لشيء ما، لكنّه لا يرتقي إطلاقاً إلى حدود استعادة الدور والنفوذ البائدين، بقدر ما يشير إلى إعادة رصّ الصفوف تمهيداً لمواكبة المرحلة المقبلة.
في معلومات “أساس” أنّ النظام السوري عرض على زوّاره ثلاثة عروض، شرط أن يأتي الطلب رسمياً من الدولة اللبنانية، بعدما وصفهم بأنّهم “جبهة”:
1- تقديم أدوية، وتحدّث عن 85 معمل أدوية في سوريا.
2- بيع الكهرباء للمناطق الحدودية.
3- تقديم البنزين، من دون تحديد مصدره.
إقرأ أيضاً: جنبلاط: انتظار الخائف أم انتظار العارف؟
أمام هذه المشهديّة المقلقة، يتلهّى الفريق السيادي في لبنان بسفاسف الأمور وصغائرها، انطلاقاً من البحث عن خطف بعض المقاعد النيابية، وصولاً إلى الانشغال بالاشتباكات العبثيّة والدوران في الحلقات المغلقة، فيما يسلك وليد جنبلاط كعادته درب التهدئة والمهادنة، ولا شكّ أنّ لسانه سيطوّق أعناق الرجال، أقلّه بانتظار تبلور الأمور ومعرفة الخيط الأبيض من الأسود.
ليس ثمّة عودة لنظام بشار الأسد إلى لبنان، وهذا كلام لا يقول به عاقل أو عارف لطبيعة لبنان وتوازناته، لكنّ ثمّة ما يُطبخ في الغرف المغلقة، وثمّة في المقابل مَن يحبس نفسه في زجاجة أوهامه، غير آبه إلا بمصالحه ومواقعه، ليعود ويدرك بعد طول انتظار أنّه جَدَع أنفه بيده.