يعصر وليد جنبلاط خمر السنوات. يعتّقها في خوابي المواقف. عجنه الدهر، فأرخى لحيته طلباً لاستراحة محارب غير متوافرة. مَن يعرفْه في المعارك يرَ “تجوهره”. ومَن يرَه في النكبات الاجتماعية يشهدْ قلقه وخوفه، على بيئة ومجتمع، على بلد ومرتكزات كيان يؤمن به ولا يزال. أكثر ما يخشاه أن يراه متحلّلاً تحت ناظريه.
ينظر إليه الجميع وكأنّه في حالة استسلام، علماً أنّ تصريحاته، التي يراها البعض خطواتٍ تراجعيّةً، تكون عبارة عن توقّع الأسوأ استعداداً للصمود لا التراجع. بنى سياسته على فلسفة خاصّة به، وهي توقّع أقصى المساوئ، حتّى إذا أتت النتائج كما هو متوقّع، أو أقلّ منه، كان ذلك في مصلحته.
مصالحة يوم السبت مع طلال أرسلان ووئام وهاب، فلها أسبابها العديدة، وتعود إلى اللقاء الذي عُقِد في عين التينة قبل سنة بين جنبلاط وأرسلان، واُتُّفِق خلاله على متابعة المسار
يُتّهم بالاستدارات الدائمة، وهو الذي يضحك على مثل هذا التوصيف. السياسة هي المتغيّر، وكلّ مَن يمارسها يُفترَض به التطوّر لا الثبات على الموقف بعد أن يتجاوزه الزمن. غيره كثرٌ ممّن يستديرون بعيداً عن ثوابت أو مبادئ بفعل تغيّرات السياسة وتحوّلاتها. دول تغيّر سياساتها، وساسة يتبنّون مواقف جديدة أو مستجدّة بناء على معطيات. ذلك لا ينطبق عليه وحده في لبنان. الاتفاق الرباعي والانقسام العمودي، العلاقة بين حزب الله وميشال عون، العلاقة بين الحريري وعون، الحريري وجعجع، جعجع وعون، موقف حزب الله من استقالة حكومة الحريري، ومن تشكيل حكومة سياسية، ثمّ العودة إلى المبادرة الفرنسية، كلّها تشير إلى انخراط الجميع في المتغيّرات السياسية.
ليس هذا مجالاً للنقاش هنا، لكنّ ما يستدعي فتح هذه الصفحة حاليّاً هو كمّ الكلام عن مواقف جنبلاط الأخيرة، وتصويرها بأنّها مقدّمة لاستدارة معيّنة. تكاملت أربعة مواقف في تصوير جنبلاط بالاستدارة، حتى صار السؤال: استدارة الخائف أو استدارة العارف؟
أوّلاً، زيارته رئيس الجمهورية ميشال عون.
ثانياً، دعوته المتكرّرة إلى إنجاز التسوية.
ثالثاً، كلامه أخيراً عن ذاكرة الحرب ودور سوريا، الذي فهمه البعض في إطار التمهيد لعلاقة مع سوريا أو التعاطي بواقعية.
رابعاً، لقاء المصالحة الدرزية يوم السبت المقبل في دارة طلال أرسلان في خلدة.
كانت زيارة عون تحت عنوان واضح هو تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري. وهي تعني أنّه لم يتخلَّ عن الزعيم السنّي. وهو انتزع هذا الموقف من ميشال عون. إنطلق في هذه الزيارة من خوفه على البلد ومن استمرار الانهيار. أمّا الدعوة إلى إنجاز التسوية فليست بغريبة عنه، وهو الذي يؤمن دوماً بما قاله كمال جنبلاط ذات يوم: “علّمتني الحقيقة أن أرى جمال التسوية”. ففي لحظة التسوية بعد صدام كبير، يمكن للمرء أن يعرف ما له وما عليه، وتكون متنفّساً للقائد والجماهير للاستراحة والتقاط النفس، لأنّ الناس لديها قدرة على التحمّل في المواجهات، وعلى القائد السياسي أن يعرف متى يُقدم ومتى يُحجم، متى يهادن ومتى يهاجم. الموقف ليس جديداً، فهو الذي يطالب دوماً بالتسوية. يريد الذهاب إلى اتفاق قبل فوات الأوان والانهيار الكامل. فحزب الله، على الرغم من كلّ قدراته وقوّته وتنظيمه، لا يبدو قادراً على إدارة توزيع البنزين ولا توفيره من الخارج، لذا لا وجود لأيّ وهم في قدرة أيّ طرف على الحلول مكان الدولة.
يجيد وليد جنبلاط فن الانتظار. ففي الانتظار حكمة، كما يرى. مَن لا يجيد فنّ الانتظار لا يمكنه العمل في السياسة. ولكن يجب أن لا يكون انتظاراً قائماً على كسل، بل على استمرار العمل في ترتيب أمور البيت والجماعة والبيئة
في هذا الإطار، بعث قبل أيام رسالة إلى نبيه بري يقول فيها: “لا بدّ من تشكيل حكومة على وجه السرعة. بغضّ النظر عن الطريقة والشكل، لأنّ البلد سيتفلّت من بين أيدينا، ولن يكون أحد قادراً على ضبط الشارع المقبل على الانفجار”. ولذلك عندما يقول: “إسمعوا الدول ماذا تقول”، فهو يستشهد بكلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن أنّ المشكلة داخلية ولا أسباب خارجية لها، الذي يعني أنّ كلّ الأعذار التي يقدِّمها الطرفان لا تبدو واقعية. وهو موقف كرّره مفوّض الشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من على منبر قصر بعبدا.
وقد حُمّل أكثر من حجمه كلامه عن دور سوريا وحافظ الأسد في الدفاع عن لبنان، وعن زيارته دمشق في أربعين استشهاد والده. جاء الكلام خلال اجتماعات مع كوادر الحزب، والمقاتلين في فترة تلك الحرب. فذكّر بمرحلة حرب الجبل وما تلاها، وجاء على ذكر دور سوريا في هذا السياق، باعتباره جزءاً من التاريخ والتراث الذي يفخر به، ولا يمكن أن ينكره.
هذا الكلام ينطبق مع رؤيته الحالية والمستمرّة برفض الفدرالية أو التقسيم والحفاظ على وحدة البلد، بالإضافة إلى الحفاظ على عروبة البلد. هو أكثر العارفين أنّ مصير سوريا على كفّ الريح. فليس وليد جنبلاط بهذه الخفّة، التي يحاول البعض أن يصوّره بها، ولا يمكن أن يتوهّم استعادة سوريا نفوذها في لبنان، لا من باب انتخاب بشار الأسد ولا في صناعة انتصارات وهميّة. فقد أصبحت سوريا جزءاً من لعبة الأمم ضمن إطار الصراع على النفوذ والمصالح، وباتت من المناطق العسكرية المتنازع عليها إقليمياً ودولياً بين قوى متعدّدة. فبشّار غير قادر على العودة إلى السويداء، ولا إلى إدلب أو درعا أو شرق سوريا. يخرج من قصره بناء على أذونات روسية، فكيف يعود إلى لبنان؟
كمّ الكلام عن مواقف جنبلاط الأخيرة، وتصويرها بأنّها مقدّمة لاستدارة معيّنة. تكاملت أربعة مواقف في تصوير جنبلاط بالاستدارة، حتى صار السؤال: استدارة الخائف أو استدارة العارف؟
هذا النوع من البروباغاندا يسهم في المزيد من تتفيه السياسة وتسخيف العقول. ينظر إلى سوريا بأسى وحزن على المصير الذي بلغته، ولا يبدو أنّ هناك أفقاً للخروج من أزماتها المتراكمة، فيما أصبح النظام بيدقاً لا يمتلك قراراً ولا خياراً.
أمّا مصالحة يوم السبت مع طلال أرسلان ووئام وهاب، فلها أسبابها العديدة، وتعود إلى اللقاء الذي عُقِد في عين التينة قبل سنة بين جنبلاط وأرسلان، واُتُّفِق خلاله على متابعة المسار. ففي آذار الفائت زار إرسلان جنبلاط في كليمنصو لاستكمال البحث بعد لقائهما في دارة برّي. حينها اقترح أرسلان حلّ مشكلة الشويفات بدون حلّ مشكلة البساتين في قبرشمون، حين وقع إشكال بين موكب الوزير السابق صالح الغريب ومتظاهرين من قبرشمون، لأنّ الغريب كان يواكب زيارة جبران باسيل إلى قلب الجبل في ما اعتبر رسالة تحدٍّ إلى المختارة.
لكنّ رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي رفض على قاعدة أنّه لا يمكن إغلاق جرح وترك الآخر. استاء المشايخ من عدم حلّ المشكلة، وحمّلوا المسؤولية لإرسلان الذي يريد المقايضة على مكتسبات سياسية. ازداد الضغط على إرسلان. في هذا الوقت زار وئام وهّاب جنبلاط في كليمنصو قبل فترة، لحلّ قضية الإشكال الذي وقع في كفرحيم قبل أشهر. أبدى جنبلاط كلّ الاستعداد لذلك، وقال وهّاب إنّه لا يريد تسليم الشخص الذي أقدم على افتعال الإشكال لأنّ لديه “امتحانات”، فقال جنبلاط: “لا بأس بشرط حلّ الموضوع”. سأل وهّاب عن سبب تعرقل المصالحة في الشويفات والبساتين، فأجاب جنبلاط بما لديه. فقال وهّاب: “يجب حلّ المشاكل كلّها”. حينها أبدى جنبلاط الاستعداد، وقال إنّه مستعدّ لحلّها ولو اقتضى ذلك زيارة إرسلان في إطار “ردّ زيارة الأخير لكليمنصو”. وعليه تمّ الاتّفاق على تحديد الموعد.
لا علاقة لهذه المصالحة بأيّ مسار سياسي أو تطوّرات يحاول البعض نسجها على الإيقاع السوري، في محاولة لصناعة أدوار وهميّة لهم. المصالحة تفيد جنبلاط لا غيره، أوّلاً من خلال لملمة الكثير من الإشكالات، وسدّ الكثير من الثغرات داخل الطائفة الدرزية. وثانياً من خلال لجوء الجميع إليه لحظة الحاجة إلى التسويات.
إقرأ أيضاً: 10 أسباب: لماذا ترك جنبلاط ضفّة النهر؟
يجيد وليد جنبلاط فن الانتظار. ففي الانتظار حكمة، كما يرى. مَن لا يجيد فنّ الانتظار لا يمكنه العمل في السياسة. ولكن يجب أن لا يكون انتظاراً قائماً على كسل، بل على استمرار العمل في ترتيب أمور البيت والجماعة والبيئة. يرى أمام عينيه المخاطر التي تقود إليها الوقائع الدولية والإقليمية، والوصول إلى اتفاق إيراني أميركي. لذلك لا يبدو في وارد الرهان على التطوّرات الخارجية والمواقف الدولية. وهذا ما يفترض صناعة التسويات، كما كان الحال تماماً في حقبة تشكيل حكومة الرئيس تمّام سلام على إيقاع مفاوضات النووي. الفارق أو الواقع هذه المرّة أخطر، والانهيار أكبر.