هناك نظريتان في علم الاجتماع حول علاقة السلطة بالفساد.
النظرية الأولى الأوسع تداولاً تقول إنّ السلطة تشجّع على الفساد، وإنّ المزيد من السلطة يؤدّي إلى المزيد من الفساد.
أمّا النظرية الثانية فتقول إنّ السلطة تشكّل في حدّ ذاتها قوّة جذب واستقطاب للفاسدين، وإنّ التزاحم والتنافس على السلطة هما في أساسهما تزاحم وتنافس على الفساد.
ترى النظرية الأولى أنّ السلطة تصنع الفاسدين.
أمّا النظرية الثانية فتقول إنّ السلطة تجذب الفاسدين أصلاً.
أثبتت الوقائع أنّ الفساد، بمعنى الاستيلاء على المال العامّ والحقّ العامّ، ليس ظاهرةً شاذّةً في مجتمع سليم. إنّه مرض سريع العدوى، وقد يكون أسرع من وباء كورونا. لقد أصبح الفساد في لبنان أداةً للوصول إلى الحكم، بل أداة للحكم. ويمتاز بأنّ له وجهاً آخر هو النفاق
لا نعرف إذا كانت النظريتان أو إذا كانت إحداهما فقط تصحّ في لبنان. إنّ ما نعرفه هو أنّ في كلتيهما استثناءات تحتّم تجنّب التعميم، وهذا ما لا بدّ من التوقّف عنده.
أجرى عالما الاجتماع جوريس لامرز من جامعة تيلبورغ في هولندا، وآدام غالينسكي من جامعة إلينوي في الولايات المتحدة، دراسة مشتركة على عدد من طلاب العلوم الاجتماعية والسياسية في الجامعتين. ونشرت دراستَهما المجلّةُ العلمية المختصّة بعلم النفس (علوم السيكولوجيا).
أثبتت الدراسة أنّ بين السلطة والفساد علاقةً مباشرة، وأيضاً بين الفساد والنفاق. إنّ التكامل بين الثلاثة (السلطة، الفساد، النفاق) يشكّل سلّماً للوصول إلى الأعلى.. أي للبقاء في السلطة مع ارتكاب المزيد من الفساد وممارسة المزيد من النفاق على الناس للتغطية على ممارسات الفساد.
في المفاهيم الأخلاقية يكون الحكم أمانة. والأمانة هي المحافظة على حقوق الناس والدفاع عن مصالحهم، ولكن في المفاهيم غير الأخلاقية فإنّ الحكم سلطة تتحوّل إلى تسلّطٍ على حقوق الناس وانتهاكٍ لمصالحهم. وللتغطية على ما بين المفاهيم الأخلاقية وغير الأخلاقية، أو ما بين السلطة والتسلّط من بون شاسع، تبرز ثقافة النفاق. وهي ثقافة “الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم”.
تبيّن الدراسة العلمية، التي أعدّها العالِمان الهولندي والأميركي، أنّ النفاق ليس مجرّد التحدّث بلسانين، أو المواجهة بوجهين. ولكنّه ثقافة تصوير الفساد على أنّه فضيلة، وتصوير الفاسد على أنّه وطني يدافع عن الحقوق. وتبعاً لذلك، فإنّ إدانة الفاسد، أو مجرّد اتّهامه، تُصوَّر وكأنّها إدانة للمجتمع الذي انبثق عنه، ويتولّى، أو يدّعي، تمثيله.
لقد أثبتت الوقائع أنّ الفساد، بمعنى الاستيلاء على المال العامّ والحقّ العامّ، ليس ظاهرةً شاذّةً في مجتمع سليم. إنّه مرض سريع العدوى، وقد يكون أسرع من وباء كورونا. لقد أصبح الفساد في لبنان أداةً للوصول إلى الحكم، بل أداة للحكم. ويمتاز بأنّ له وجهاً آخر هو النفاق.
يتجسّد النفاق في رفع الصوت عالياً ضد هدر المال العام عندما يصبّ هذا الهدر في جيوب الخصوم والمنافسين. ولا يصبح هذا الهدر مسكوتاً عنه، إلا عندما يتعهّد الفاسدون بالسكوت عن فساد منتقديهم. وهكذا يعمّ الفساد تحت مظلّة النفاق المتبادل. ولعلّ هذا التوصيف هو الذي قاد لبنان إلى جهنّم التي يكتوي بنارها.
إقرأ أيضاً: شكراً فخامة الرئيس.. على خجلنا بالوطن
ما كان لكارثة تفجير مرفأ بيروت أن تكون لولا الفساد.. الفساد في تغطية وجود النيترات وتجاهل خطرها.. وما كان لكارثة عكّار أن تنفجر لولا الفساد.. الفساد في حجب المحروقات عن الناس وتهريبها. وقس على ذلك. فالفساد يقف وراء كلّ كارثة، ووراء كلّ مصيبة. وهو يقف الآن وراء تحويل لبنان من دولة رسالة إلى دولة فاشلة.
ليس للفشل حدود. فللفساد قوّة على الحفر تعجز عنها كلّ الأدوات الأخرى.. بربّكم أوقفوا الحفر.