باسيل يتذلّل للسيّد: حصّتنا وحقوقنا في “ذمّتك”

مدة القراءة 5 د

لا يرضى جبران باسيل بحياد “حزب الله” في الصراع السياسي بين التيّار المسيحي الحاكم وحزبيْن، أحدهما سنّيّ وآخر شيعيّ. ولا يرى صهر الرئيس المسيحي في الأمين العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصر الله طرفاً شيعيّاً، بل يريد له أن يكون حَكَماً في الصراع الطائفي “مؤتمناً على الحقوق” (المسيحيّة). 

نعم، بالتعبير الحرفي يريده “حَكَماً” في حرب الطوائف. ويا للمصادفة، إنّها المكانة التي أعطاها الطائف لموقع رئيس الجمهورية بين السلطات! هكذا يرتقي نصر الله إلى مرتبة المرشد، ليكون فوق مقام رئاسة الجمهورية التي هي فوق السلطات.

توصيف الصراع على هذا النحو ليس تأطيراً مفرطاً في الطائفية، بل هو التوصيف الذي يتبنّاه باسيل بالذات. يصل به الأمر إلى أن يعيّر رئيس حزب القوات سمير جعجع بعدم انحيازه إلى الجانب المسيحي في المعركة الطائفيّة.

الاستعصاء الراهن ليس مجرّد تنازع على مقاعد وزارية. إنّه خلاف على قواعد دستورية ميثاقية تتعلّق بتعريف المناصفة المنصوص عليها في الدستور، وكيفيّة تشكيل الحكومات

لكن هل يصدّق باسيل حقّاً أنّ “مرشد الجمهورية” خارج حسابات الطوائف، وأنّه غير معنيّ بحصّة الشيعة في الحكم بقدر ما هو معني بأن يحكم بالعدل بين المسيحيين والشيعة؟

ليس الرجل بهذه السذاجة، لكنّه في واقع الأمر يقدّم طلب لجوء “ما فوق سياسي” يجعله وحزبَه وطائفتَه في ذمّة السيّد وحزبه والدولة التي ترعاه. إنّه يطلب على الملأ حصّةً من السلطة “المحليّة”، مع التعهّد بأن يبقيها تحت عباءته الاستراتيجية. هكذا يصوغ العقل العونيّ ازدواجيّته: خطاب للساحة الطائفية عنوانه “حقوق المسيحيّين”، يوسّع به حصّته ضمن معادلة المناصفة، باعتبار أنّ الحصّة المسيحيّة امتياز حصريّ له، وخطاب ذمّي تجاه “حزب الله”، يضمن له أن تكون الحصّة المسيحيّة في ذمّة الحزب وضمن حوزته الاستراتيجية.

تلك المناشدة غير المسبوقة في تذلّلها لم تأتِ إلّا بعدما استشعر باسيل نزوعاً لدى “حزب الله” إلى ترسيم توازن عرفيّ على أساس المثالثة. بدأ الأمر في كواليس السياسة، قبل أن يعلن نصر الله في شباط الماضي، بصريح العبارة، تأييده مطالبة الحريري بأن لا تتجاوز حصّة أيّ طرف الثلث. كان ذلك إرساءً لتوزيعة المثالثة: ثلثٌ للمسيحيّين، ومعهم الأقلّية الدرزيّة المتمثّلة بطلال أرسلان، وثلث للشيعة ومَن معهم من الحلفاء المسيحيّين، وثلثٌ للسنّة والدروز. ما كان يطرحه عون وباسيل آنذاك، ولا يزالان يناوران فيه، هو التسليم بالثلث الشيعيّ، بما فيه من مكوّنات مسيحية، ومحاولة التوسّع على حساب الثلث السنّي – الدرزي. 

لكنّ الاستعصاء الراهن ليس مجرّد تنازع على مقاعد وزارية. إنّه خلاف على قواعد دستورية ميثاقية تتعلّق بتعريف المناصفة المنصوص عليها في الدستور، وكيفيّة تشكيل الحكومات. ولذلك الحلّ، الذي سترسو عليه الأزمة، سيكون أشبه بتسوية على نسق اتّفاق الدوحة.

يريد باسيل إرساء تفسير للمناصفة يقضي بأن لا يسمّي المسلم وزيراً مسيحيّاً، إلا على سبيل تبادل المقاعد بين الطوائف. لكنّها قاعدة غير قابلة للإرساء حين تخرج من إطار المناكفة مع الحريري إلى إطار التوازنات المستقرّة على الصعيد الوطنيّ الأوسع

في هذا السياق دون سواه يمكن فهم البيانات الناريّة الصادرة من عين التينة، وفيها ما فيها من المواقف الدستورية المتعلّقة بصلاحيّات الرئاسة الأولى، وأهمّها أن ليس للرئيس الحقّ في أن يكون له وزير واحد، ناهيك عن أن تكون له حصّة وزاريّة فضفاضة، فيها ما فيها من الوزارات السياديّة والخدميّة. وتلك مواقف لا يمكن أن تصدر من دون تنسيق بين جناحيْ الثنائيّ الشيعيّ.

يريد باسيل إرساء تفسير للمناصفة يقضي بأن لا يسمّي المسلم وزيراً مسيحيّاً، إلا على سبيل تبادل المقاعد بين الطوائف. لكنّها قاعدة غير قابلة للإرساء حين تخرج من إطار المناكفة مع الحريري إلى إطار التوازنات المستقرّة على الصعيد الوطنيّ الأوسع. فما يسري تحريمه على المسلم السنّي يسري بالضرورة على المسلم الشيعي، وهذا ما لا يمكن لثنائيّ الحزب والحركة التسليم به، لأنّه يحصر الدور الشيعي في الحكم راهناً وحتى إشعار آخر، بما هو أقلّ بكثير من واقع الشيعة السياسي والعسكري.

الترجمة الحسابيّة للفهم العوني للمناصفة أنّ للرئيس الماروني حصّة في السلطة الإجرائية لا تقلّ عن خمسة وزراء من أصل ثلاثين، أي ما يعادل حصّة كتلة من عشرين نائباً فوق كتلته. وهذا هو سبيل العونيّين الوحيد ليحصلوا على عشرة وزراء في حكومة الـ24، أي 42% من مقاعد الحكومة، مع أنّ حصّتهم من الأصوات في الانتخابات النيابية الأخيرة لم تتجاوز 8.6%، وفق إحصاءات كمال فغالي، العونيّ الهوى. 

غير أنّ سعد الحريري، الذي سلّم بمبدأ “حصّة الرئيس” في مرحلة انهزامٍ وتسليمٍ سياسيّ، في الحكومتين اللتين شكّلهما في عهد عون، لا يقوى على خوض معركة كسر هذا العرف وحده من دون الثنائي الشيعي، تماماً كما أنّ باسيل لا يقوى على خوض معركة تثبيت هذا العرف في وجه الثنائي الشيعي.

إقرأ أيضاً: بطاقة “سَجَّاد” المسيحيّة… آخر رهانات “العهد القويّ”

لذلك لا سبيل أمام العونيين سوى خطاب التذلّل لإخراج “حزب الله” من دائرة العناية بإرساء المثالثة عرفاً دستورياً، إلى تثبيت غالبية الثلثين (معه وسائر قوى 8 آذار) على القاعدة الذمّيّة، على نحو ما فُرِض الثلث المعطِّل في اتفاق الدوحة بعد انتخابات 2009، وفي انتخابات الرئاسة التي حملت عون إلى قصر بعبدا.

إنّها “خرطوشة” العونيّين الأخيرة في خريف الرئاسة.

 

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…