لبنان ينتظر… انتظارات الحزب

مدة القراءة 6 د

أيّ قراءة لتطوّرات الأحداث اللبنانية يُفترض أن تنطلق من نقطتين: الأولى أنّ حزب الله هو القوّة السياسية الأقدر على التحكّم بهذه التطوّرات. والثانية أنّ الحزب بخلاف سائر القوى اللبنانية لا يتحرّك وفق حسابات سياسية داخلية وحسب، وإنّما وفق حسابات إقليمية ودولية أيضاً. وإن لم يكن أحد اللاعبين الكبار على الساحة الإقليمية، التي تتداخل فيها أجندات دولية روسية وأميركية وأوروبية وصينية، لكنّه لاعبٌ مرتبط بقوّة إقليمية رئيسة هي إيران.

على الساحة الداخلية، أظهرت مجريات إضراب الاتحاد العمّالي العام أنّ حزب الله ليس في وارد التصعيد الميداني – السياسي ضدّ أحد مثلما فعل يوم 7 أيار 2008، حين كان الاتّحاد نفسه يستعدّ لتنظيم تظاهرة في منطقة البربير قبل أن يعلّقها في اللحظة الأخيرة. لكنّ ذلك لم يحُل يومئذٍ دون قطع بعض الطرقات في العاصمة، والبقية معروفة. ومثلما حصل أيضاً عندما نشر الحزب عناصره على تقاطعات رئيسة في بيروت لمدّة 40 دقيقة صباح 18 كانون الثاني 2011، وهو ما أُطلق عليه لاحقاً ظاهرة “القمصان السود”، التي دفعت الغالبية النيابية إلى تسمية الرئيس نجيب ميقاتي لتأليف الحكومة خلفاً للرئيس سعد الحريري، الذي أُسقطت حكومته بعد انسحاب وزراء التيار الوطني الحر و8 آذار منها لحظة دخول الحريري البيت الأبيض للقاء الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما. ومثلما حصل أيضاً خلال احتجاجات “17 تشرين”، حيث “أوفد” الحزب عناصره مراراً إلى ساحتيْ رياض الصلح والشهداء لترهيب المتظاهرين وضربهم بالعصي، ولا سيّما في يوم 24 تشرين الأول 2019.

أظهرت مجريات إضراب الاتحاد العمّالي العام أنّ حزب الله ليس في وارد التصعيد الميداني – السياسي ضدّ أحد مثلما فعل يوم 7 أيار 2008، حين كان الاتّحاد نفسه يستعدّ لتنظيم تظاهرة في منطقة البربير

ولعلّ بيان كتلة “الوفاء للمقاومة” وتصريح الشيخ نعيم قاسم اللذين دعَوَا الخميس إلى تقديم جميع الأطراف المعنيّة بتشكيل الحكومة تنازلات متبادلة، يؤكّدان قرار الحزب بالتهدئة مع الإصرار على رفع مسؤولية الأزمة الحكومية والاقتصادية عن كاهله، وإظهار عدم قدرته على فعل أكثر ممّا يفعله لحلّ الأزمة السياسية المستعصية.

الواقع أنّ ما يقوله الحزب، عن انعدام حيلته في التوفيق بين أفرقاء الحكومة المتصارعين على حدّ السيف، لا يعكس بالضرورة حقيقة هذا الأمر، لكنّ الأكيد أنّ قول الحزب هذا يعكس عدم

استعجاله تشكيل حكومة الآن، وذلك ربطاً بالتطوّرات الإقليمية والدولية ذات الصلة به وبراعيته إيران، ولا سيّما المفاوضات حول الملف النووي الإيراني في فيينا، ونتائج قمة الرئيسين الروسي والأميركي في جنيف في 16 حزيران، وبالتحديد ما يتناول منها الملفّ السوري واختبار إمكان التعاون بينهما في شأنه.

في موضوع الملف النووي الإيراني، بات من شبه المؤكّد أنّ مفاوضات فيينا ستفضي، في نهاية الأمر، إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي بين طهران ومجموعة الخمسة زائدة واحداً، بالنظر إلى تصميم الرئيس جو بايدن على العودة إلى الاتفاق الذي خرج منه سلفه دونالد ترامب في أيار 2018.

لكنّ السؤال المطروح يتعلّق بكيفيّة تعامل الجانب الأميركي مع ملفّيْ البرنامج الصاروخي لطهران والتوسّع الإيراني في المنطقة، اللذين يصرّ حلفائه في المنطقة على دعوته إلى تقييدهما في هذا الاتفاق. وهما ملفّان يعنيان حزب الله مباشرةً في ما يخصّ لبنان والمنطقة. ولذلك يقيم الحزب وإيران حساباتهما على أساس التهدئة أو التصعيد تبعاً لتطوّر الموقف الأميركي من هذين الملفّين. لكن الآن في لحظة الانتخابات الإيرانية، والتقدّم في محادثات فيينا، فإنّ طهران تهدّئ اللعب مع واشنطن، وهو ما يمكن الاستدلال عليه في العراق.

أما التبريد الإيراني مع واشنطن فلا ينعكس على اليمن، حيث تواصل ميليشيا الحوثيّين القصف على مأرب واستهداف الأراضي السعودية بالمسيّرات المفخّخة في انعكاس للجوانب الإقليمية للاتفاق النووي. وأمّا في لبنان، الذي أدّى انتخاب بايدن إلى تخفيف حدّة الصراع بين واشنطن وطهران على أرضه، فإنّ حزب الله يعتمد التهدئة في لغته وحركته بانتظار قبض أثمان سياسية لم يحِن موعدها بعد.

لبنان الآن في حالة انتظارية هي ارتدادٌ لحالة الانتظار التي يعيشها حزب الله ترقّباً لتطوّرات الملفّات الرئيسة في المنطقة. وفي ظلّ هذه الحالة الانتظارية، يواصل الانهيار تقدّمه بخطى ثابتة

يحيلنا انتظار الحزب إلى الملفّ السوري، الذي من الأكيد أنّ الحديث الروسي – الأميركي قد بدأ حوله، مهما تكن حدود انعكاسات قمّة جنيف عليه. وسيكون الاختبار الأوّل لإمكان “التعاون” بين البلدين في سوريا من خلال توفير أرضيّة لتمديد العمل بالقرار الدولي الخاصّ بالمساعدات الإنسانية عبر الحدود، الذي تنتهي صلاحياته في 11 تموز. مع العلم أنّ أيّ تعاون روسي – أميركي حول سوريا يعني حكماً اتّفاقهما، عاجلاً أم آجلاً، على “احتواء النفوذ الإيراني” فيها. وهو أمر يعني مباشرة الحزب، خصوصاً في ظلّ الربط الذي تقيمه روسيا بين الملفّين اللبناني والسوري، وهو ما ظهر بوضوح خلال استقبالها وفد الحزب في موسكو في 20 آذار.

لذلك لا بدّ لأيّ مباحثات دولية، تضع “ترتيباً” جديداً في سوريا من أجل التوصّل إلى تسوية سياسيّة تنهي الصراع المسلّح وتمهّد لإعادة إعمار البلد المدمّر، أن تشمل الأزمة اللبنانية،

خصوصاً أنّ حزب الله لاعبٌ في كلا البلدين. طبعاً ليس متوقّعاً أن تدخل الأزمة السورية دائرة الحلّ قريباً، في حين أنّ لبنان، الذي يواجه انهياراً غير مسبوق، لا يمكنه الانتظار إلى وقت اتّضاح صورة سوريا الجديدة وإلّا انهار الكيان اللبناني فوق رؤوس الجميع، كما حذّر قائد الجيش الخميس.

في المقابل، إيران والحزب مضطرّان إلى الربط بين الملفّين السوري واللبناني لكي لا يقدما على أيّ خطوة في لبنان يمكن أن تضرّهما في سوريا، أو يمكن ألا تأتي في طبيعتها وتوقيتها بالثمن الذي يريدانه وفق حساباتهما المتداخلة على امتداد المنطقة.

الخلاصة أنّ لبنان الآن في حالة انتظارية هي ارتدادٌ لحالة الانتظار التي يعيشها حزب الله ترقّباً لتطوّرات الملفّات الرئيسة في المنطقة. وفي ظلّ هذه الحالة الانتظارية، يواصل الانهيار تقدّمه بخطى ثابتة. والقوى السياسية المعنيّة بتشكيل الحكومة، أي الرئيس نبيه بري وتيار المستقبل ووليد جنبلاط من جهة، والعهد والتيار الوطني الحر من جهة ثانية، تواصل معاركها، لكن ضمن سقوف مضبوطة، كما ظهر في إضراب الخميس.

إقرأ أيضاً: الحزب “ضبضب” الشّارع: تأجيل الاعتذار شهرين

على الرغم من هذا المشهد القاتم اجتماعياً وسياسياً، الحزب غير مستعدّ لتغيير أولويّاته والخروج من حالة الانتظار، أياً تكن أثمان ذلك على الواقع اللبناني. لكنّ المشكلة الكبرى أنّ الحزب عندما ينوي التحرّك فهو سيتحرّك لترتيب توازنات سياسيّة جديدة تعكس غلبته في الداخل اللبناني، سواء في الحكومة أو في الانتخابات النيابية والرئاسية. وبالتأكيد يضع الحزب أجندة عمل تواكب كلّ الاحتمالات التي قد يقدم عليها أيّ من القوى السياسية، بما فيها احتمال اعتذار الحريري واستقالته من المجلس النيابي.

باختصار، لن يسمح الحزب لحلفائه ولا لخصومه بتبديل أولويّاته، وإلّا يكن قد سلك طريق الخسارة بعد طول انتظار… وقتذاك قد يستدعي الحزب “القمصان السود” في تجديد متواصل لغلبته وللمأساة اللبنانية.

مواضيع ذات صلة

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…

من يُنسّق مع باسيل بعد وفيق صفا؟

بات من السهولة رصد تراكم نقاط التباعد والفرقة بين التيّار الوطني الحرّ والحزب. حتّى محطة otv المحسوبة على التيّار أصبحت منصّة مفتوحة لأكثر خصوم الحزب شراسة الذين…