معظم اللبنانيين على مواقع التواصل الاجتماعي احتفلوا بعيد الأب في العشرين من حزيران بدل الحادي والعشرين منه. ربّما كان السبب أنّ عيد الأب صادف هذا العام يوم اثنين، وبدا أنّ العطلة مناسبة تماماً للاحتفال بالعيد. كنت من بين أولئك الذين جرفتهم الموجة، فاحتفلتُ مع طفليّ بالعيد، بمبادرة طبعاً من زوجتي.
والعشرون من حزيران في الروزنامة يصادف اليوم العالمي للّاجئين، فيما يجتمع عيد الأب مع عيد الموسيقى في الحادي والعشرين. لكنّ مفارقة الاحتفال بعيد الأب في العشرين من حزيران بالتزامن مع اليوم العالمي للّاجئين دفعتني إلى التفكير مليّاً في دوري الأبويّ، وفي الواجب الأخلاقيّ الذي يترتّب عليّ تجاه طفليّ، اللذين وُلدا ويكبران في هذه البلاد، مع ما يعنيه ذلك من جريمة بحقّ الطفولة وفي حقّ مستقبلهما.
الأبوّة كمفهوم، كنظام حكم، فاسدة. ونعيش في بلاد يسمّي الرئيس البائس فيها نفسه بـ”بيّ الكلّ”. وأفكّر أنّ المرء لا يختار أباه. لا يمتلك ترف تغيير الأب متى وُلِد. وهذه مأساة إذا كان الأب فاسداً
كلّ أهلٍ في هذه الأيام يعيشون، على الغالب، هذه الإشكالية. وكثيرون مثلي يبحثون عن مخرج. وفي الآن عينه، يتمسّكون “بكعب حذاء الأمل”، وهذه عبارة أستعيرها من الشاعر السوريّ محمد الماغوط، الذي حسدنا ذات يوم، في حوار مع يحيى جابر ويوسف بزّي، على الحريّة التي نتمتّع بها في لبنان، وطالبنا أن نتمسّك بها.
مات الماغوط قبل الثورة السورية، ولم يعِش ليرى ما آلت إليه الأمور في زمننا هذا، مع سحق بشّار الأسد للشعب السوريّ المُطالِب بحريّته، وسحق السلطة اللبنانية للناس الذين نزلوا إلى الشوارع لمحاولة إنقاذ ما تبقّى من اقتصادهم من براثن وحوش السياسة والطائفيّة والمال.
نبحث عن مخرج، ونتمسّك بطرف ثوب الأمل، والأمل “ابن كلب”، غدّار وخدّاع، يجرّنا إلى الوهم، ويربطنا بالحنين إلى وطنٍ من أغنيات. “خذني ازرعني بأرض لبنان”، تغنّي فيروز، والغصّة تقتلني، وما زلت هنا. أهنالك غربة أقسى من هذه؟ أسمع الأغنيات الوطنية وأشعر بالحنين إلى وطني وأنا لا أزال هنا، مزروعاً في أرض لبنان، وأرتوي من الأمل الزائف السامّ، الذي يقتل جذوري من دون أن أشعر، ويجفّف تربتي، ويمتدّ اليباس إلى غصوني، وتسقط أوراقي تحتي، وأقول إنّه الخريف. تضيع منّي الفصول. كلّ أيّامنا خريف. وننتظر ربيعاً ولّى إلى غير رجعة .
وأنا أقصّ قالب الحلوى مع طفليّ، قبل يوم واحد من عيد الأب، في اليوم العالمي للّاجئين، شعرت أنّ احتفالنا ليس بالأبوّة. بل كان في موعده احتفالاً باليوم العالمي للّاجئين. كنتُ مع طفليّ وزوجتي، لاجئين في وطننا، نحتفل بالأبوّة، ورابطة الأبوّة، على ما يقول جان بول سارتر، “فاسدة”. ويقول: “ليس هناك من أب فاسد”. الأبوّة كمفهوم، كنظام حكم، فاسدة. ونعيش في بلاد يسمّي الرئيس البائس فيها نفسه بـ”بيّ الكلّ”. وأفكّر أنّ المرء لا يختار أباه. لا يمتلك ترف تغيير الأب متى وُلِد. وهذه مأساة إذا كان الأب فاسداً، إلى فساد الأبوّة كرابطة. وأنظر إلى طفليّ وهما يقصّان معي قالب الحلوى بسكّين بالمقلوب. وكان عليّ أن أتمنّى أمنية كما تجري العادة في تماس أيّ سكّين مع قالب حلوى. وتمنّيت أن لا أكون أباً فاسداً. أن لا أكون أباً بالمعنى الذي قصده سارتر. أن لا أكون سلطة تفرض إيقاعها وفشلها وأنانيّتها على “العائلة”، كما فعل ميشال عون.
إقرأ أيضاً: إلى الجحيم… البلد بمن فيه
نظرتُ إليهما وتمنّيت أن أخرج بهما من الجحيم الذي وعدنا به “بيّ الكلّ”. جحيم الأبوّة الفاسدة الذي لا مفرّ منه إلا بالهرب بعيداً، خارج “البيت” وخارج “العائلة”. نظرت إليهما وقلت بيني وبين نفسي “سأخون وطني”. وأستعير من نصّ الماغوط الطويل ما يلائمني: “وأحزم حقائبي وأسافر. في الذهاب أتمنّى أن يكون مقعدي في غرفة القيادة على ركبة الطيّار أو المضيفة لأبتعد بأقصى سرعة عن هذا الوطن”. وأحذف تكملة الفكرة، فكرة الماغوط، أبترها، لأنّها مضروبة بغرغرينا الأمل: “وفي الإياب، أتمنّى أن يكون مقعدي في مقدّمة الطائرة على غطاء المحرّك لأعود بأقسى سرعة إلى هذا الوطن”.
وأنا أقطع قالب الحلوى، أتمنّى أن تتكفّل الجهة الحادّة من السكّين، بقطع جذوري من هذه الأرض، أن تبتر جذع الأمل كي أنقذ باليأس، اليأس الحقيقيّ الصادق الجميل، هذه العائلة الصغيرة، وأخرجها من هذا الطابور الطويل الذي ينتهي في جهنّم.