فاز الدكتور رضوان السيّد بجائزة النيل للإبداع العربيّ لعام 2021، وهي أرفع جائزة أدبيّة تُمنح لغير المصريّين. وقد استحقّ الرجل هذه الجائزة وغيرها ممّا يطول ذكره من الجوائز، وليس هذا بمستغرب من رجل يعرف مَنْ خبره أنّه يقضي الليل قراءةً وكتابةً وتفكيراً، لا يكاد يفوته كتاب بالعربيّة أو الإنكليزيّة أو الألمانيّة أو الفرنسيّة.
يشهد على هذا الجهد تشعّب مواضيع اهتمامه، إذ نراه يكتب في الفكر الإسلاميّ المعاصر، والحركات الإسلاميّة، والتراث السياسيّ الإسلاميّ الكلاسيكيّ، وبناء الدولة، والفقه، والاجتهاد، والسيرة، وعلم الكلام، والعلاقات الإسلاميّة المسيحيّة، وفلسفة الأديان، والقائمة تطول.
انبرى الدكتور السيّد، منذ السبعينيّات من القرن الفائت، لنشر مخطوطات التراث السياسيّ الإسلاميّ ودراستها من جهة، وتنظيم المعارف التي تكوّنت لديه من هذا النشر وتأويلها في دراسات أكاديميّة من جهة ثانية. هذا عدا الترجمات ومراجعات الكتب
ولقد شرفت بمرافقة الرجل في السنوات العشر الفائتة صديقاً وزميلاً ومريداً، لا يكاد يمرّ يوم إلّا ونتزاور أو نتهاتف عشيّةً، نبثّ همومنا ونتشاطر اهتماماتنا. وهو خلال هذه المدّة ما فتئ يتّهمني بأمرين اثنين، سرّاً وجهاراً، صراحةً وإشارةً: الأوّل هو الهوس بالمخطوطات أو manuscript fetishism على حدّ قوله، والثاني هو عدم التسليم بوجود حقلٍ معرفيّ إسلاميّ قائمٍ بنفسه، ويستدلّ في اتّهاميْه هذين بولعي بتحقيق التراث والمزاوجة في أغلب دراساتي بين الحقول المعرفيّة من أدب وحديث وقرآن وتفسير وتصوّف وكلام.
نختلف أنا ومولانا، كما جرت العادة أن ندعوه، ونتسلّى كثيراً في خلافنا الذي يخفّف من قساوة الدنيا أو يكاد. وأريد في هذه المقالة القصيرة أن أخالف عادتي وأوافقه في اتّهامَيْه، ولكن أودّ أن أردّهما عليه، فالرجل يعرف منهجي جيّداً لأنّه هو نفسه من أرساه. سأدافع عن ادّعائي بالنظر إلى جهد الدكتور رضوان السيّد في حقل معرفيّ يكاد أن يكون هو منفرداً مَن أرساه على قواعده وكشف معالمه فجعله تخصّصاً معتمداً، ألا وهو التراث السياسيّ الإسلاميّ الكلاسيكيّ.
فقد انبرى الدكتور السيّد، منذ السبعينيّات من القرن الفائت، لنشر مخطوطات التراث السياسيّ الإسلاميّ ودراستها من جهة، وتنظيم المعارف التي تكوّنت لديه من هذا النشر وتأويلها في دراسات أكاديميّة من جهة ثانية. هذا عدا الترجمات ومراجعات الكتب. أذكر من هذه المخطوطات: الأسد والغوّاص، وقوانين الوزارة وسياسة الملك للماورديّ، والإشارة إلى أدب الإمارة للمراديّ، والجوهر النفيس في سياسة الرئيس لابن الحدّاد، وتحفة الترك فيما يجب أن يُعمل في المُلك للطرسوسيّ، وتسهيل النظر وتعجيل الظفر للماورديّ. تندرج هذه المخطوطات ضمن النوع الأدبيّ المعروف بمرايا الملوك أو نصائح الملوك، وتتناول قضايا مثل المَلِك وصفاته وأخلاقه وصفات وزرائه وحاشيته، وعلاقته بالخاصّة والعامّة، والرعيّة وسياستها. هي نصوص تتشابك فيها الأخلاق بالسياسة، والخاصّ بالعامّ، وتنفتح على عدّة ثقافات (فارسيّة وهنديّة ويونانيّة وبيزنطيّة)، وأزمنة متعاقبة.
وقد درس الدكتور السيّد هذه المخطوطات مستعيناً بمنهج السوسيولوجيّين الفرنسيّين والأنثروبولوجيّين البريطانيّين، وزاوج بين هذا الاختصاص والنصوص الكلاميّة وأصول الفقه والنصوص الأدبيّة العربيّة. وأذكر من كتبه في هذا المجال: الأمّة والجماعة والسلطة (1984)، والجماعة والمجتمع والدولة (1997)، وسياسات الإسلام المعاصر (1997). وقد جرت العادة لدى بعض الباحثين أن يعالجوا نصوص مرايا الملوك بالنظر إلى النوع الأدبيّ، أي باعتبارها محكومة بعلاقات ثابتة نصّيّة خارج حدود الزمان والمكان، فينقل كاتب في القرن السادس على سبيل المثال من مؤلّف من القرن الثالث. أمّا البعض الآخر من الباحثين فقد نظر في هذه النصوص على أنّها نتاج لظروف تاريخيّة واجتماعيّة وسياسيّة.
زاوج الدكتور السيّد بين المنهجين من خلال مقولة “حواريّة النصّ والتاريخ”، فاعتنى بالقراءة الداخليّة التي تهتمّ بالنصّ كنصّ، ثمّ بظروفه التاريخيّة والمكانيّة، ثمّ بعلاقته بالعلوم الإسلاميّة الأخرى. وهو في ذلك يركّز على مجموعة من المفاهيم نراها تتكرّر في عناوين دراساته وكتبه، منها: الجماعة والفتنة والأمّة والدولة والسلطة والحكم والمعرفة.
إقرأ أيضاً: رضوان السيّد: من الكرز والبطاطا… إلى الفضاء الوطني
يضيء هذا الاهتمام على مركزيّة السياسة في الثقافة العربيّة، ويضع التجارب الحضاريّة التاريخيّة في سياقاتها، لينطلق منها إلى بناء حاضر معاصر ومتقدّم نحن اليوم بأمسّ الحاجة إليه. الفكر السياسيّ الإسلاميّ اليوم فرع من فروع الدراسات الإسلاميّة، يُدرَّس في الجامعات، وتُكتب فيه الأطاريح الجامعيّة، وهذا بفضل جهود الدكتور رضوان السيّد المولع بالمخطوطات.
* أستاذ كرسيّ الشيخ زايد للدراسات العربيّة والإسلاميّة، الجامعة الأميركيّة في بيروت