يفرض “التاريخ العالمي للحرب الباردة”، (طبعة 2017)، للمؤرّخ أود آرنه ويستاد(Odd Arne Westad) ، نفسه في مضمار نوبة ازدراء “النموذج السوفياتي” لبنانياً.
يمكنك أن تقرأ فيه أنّه، بخلاف فكرة رائجة مغلوطة، لم يكن عهد الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف عهد ركود ولا عهد انكماش على الصعيد الاقتصادي. بالعكس، كلّ المؤشّرات الجديّة تدلّ، وفقاً لويستاد، على أنّه، في ظل الاقتصاد المخطَّط، كان ثمّة نموّ محدود، لكن متواصل، وهو يقدّر معدل النمو السنوي الإجمالي للاقتصاد السوفياتي بما بين 2.7% و3% خلال الستّينيات والسبعينيات. لكنّه كان أقلّ من نسبة النموّ السنوي المحقّقة في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية. زد على ذلك أنّ الاقتصاد المخطَّط كان يحقِّق توسّعاً بطيئاً لكن منتظماً، وكان بمنأى عن التفاوت الحادّ في النموّ، من سنة إلى أخرى، الذي كان يحدث أحياناً في الاقتصادات الرأسمالية الغربية.
التجربة السوفياتية تجربة حافلة، وكتاب ويستاد المخصّص أساساً لتأريخ الحرب الباردة يرصد بشكل فطن وممتع كيف كان السباق محموماً بالفعل بين الجبّارين، ولو أنّ فكرة لحاق السوفيات بالولايات المتحدة كانت فكرة كارثية، إذ ولّدت الحاجة إلى المبالغة في معدّلات النمو الاقتصادي في الاتحاد السوفياتي، من دون أن يعني هذا أنّه لم يكن ثمّة نموّ
لا نيّة لويستاد، الذي يدرّس في جامعة يال، لتقريظ النموذج السوفياتي. إذ إنّه يشير إلى مكمن العلّة في الاقتصاد السوفياتي: الإنفاق الهائل على الصناعة الثقيلة والتجهيزات العسكرية، على حساب السلع الاستهلاكية. والنتيجة هي أجور فعليّة تتحسّن سنوياً للعمال، وبشكل أكبر للمهندسين، في مقابل سوق استهلاكية محدودة. حتّى في قيمتها الدولارية، بحسب السوق السوداء، صارت لدى شريحة واسعة من المواطنين السوفيات كمّيّات من المال ليس في مقدورهم توظيفها استثمارياً ولا استعمالها من أجل الإشباع الاستهلاكي. هذا في وقت كانت الدولة توفّر الطبابة، السكن، رياض وحضانات الأطفال، التربية والتعليم، ضمان الشيخوخة.
بيد أنّ ويستاد يشرح أنّ نتيجة ضغط المجتمع المتزايد، في السبعينيات من القرن الماضي، من أجل توسيع مدارك الاستهلاك، ولأنّ السلطات أخذت تتبيّن أنّ تشجيع الناس على الاستهلاك هو أفضل من اهتمامها بالسياسة، اتّخذت الأمور منحىً آخر. فبقي الإنتاج في الداخل يركّز على الصناعة الثقيلة، ولكن بدأ يؤتى بالسلع الاستهلاكية من الخارج. فحدثت طفرة استهلاكية نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات، أحد مظاهرها أنّ كمية اللحوم المستوردة وصلت إلى 900 ألف طن في العام. هذا غير الكميات الخرافية من مختلف المواد الاستهلاكية.
في مقابل ماذا؟
لمّا كانت الصناعة الثقيلة غير معدّة للتصدير، والسلع الاستهلاكية السوفياتية غير معدّة للتصدير على نحو واسع، صار التركيز أكثر فأكثر على رصد المبالغ لهذا الاستيراد الاستهلاكي الضخم من عائدات الريوع النفطية والغازية. ازدادت الدولة السوفياتية اعتماداً على هذه الريوع. وفي الوقت نفسه كان مواطنوها يتصوّرون أنّ الفجوة الاستهلاكية بينهم وبين المواطنين في الغرب هي أكبر بأضعاف ممّا كانت عليه في واقع الحال، إذا كانت الصورة إجمالية شاملة وغير محصورة بالمراكز التجارية للمدن الكبرى.
في لبنان، مصادرة أموال المودعين جزء من معادلة أساسية يجهد فيها الأكثر غنىً لتكبيد الأقلّ غنىً والأكثر فقراً معظم فاتورة الانهيار المالي. هي مصادرة في الاتجاه المعاكس تماماً لتلك التي يمكن وصف “الشيوعية” بها
حتّى عقد السبعينيات كانت الأقمار الصناعية إيكران (Ekran) تسمح لملايين المواطنين في الاتحاد السوفياتي، حتى أقاصي سيبيريا والشرق الأقصى، بمتابعة البرامج التلفزيونية، في حين كانت مناطق عديدة في البلدان الغربية لا يصل إليها البثّ التلفزيوني. لكن تحييد التلفزيون عن الأهداف الاستهلاكية جعلته مضجراً لهؤلاء المواطنين، وقلّما كانوا يتابعون برامجه.
في مطلع الثمانينيات، كان الأميركيون قد طوّروا شبكة الأقمار الصناعية، بحيث صار ممكناً للمواطنين السوفيات التقاط ما تبثّه، وربطوا التلفزيون أكثر فأكثر بالمتابعة الرياضية والمسلسلات. في الثمانينيات تعمّقت الفجوة مع تراجع سعر برميل البترول، الذي بلغ الذروة عام 1986. يضاف إليه استنزاف الاقتصاد والجيش السوفياتيّين في حرب أفغانستان.
التجربة السوفياتية تجربة حافلة، وكتاب ويستاد المخصّص أساساً لتأريخ الحرب الباردة يرصد بشكل فطن وممتع كيف كان السباق محموماً بالفعل بين الجبّارين، ولو أنّ فكرة لحاق السوفيات بالولايات المتحدة كانت فكرة كارثية، إذ ولّدت الحاجة إلى المبالغة في معدّلات النمو الاقتصادي في الاتحاد السوفياتي، من دون أن يعني هذا أنّه لم يكن ثمّة نموّ.
بعد سنوات قليلة على إصدار ويستاد كتابه المرجعي، يمكن أن يتحفك في لبنان بعض المهلوسين، الذين كلّما تهاوى سعر صرف الليرة أمام الدولار يلعنون الشيوعية ويصفونها بأوصاف غير سويّة على الإطلاق.
كان الاتحاد السوفياتي يوفّر الطبابة، السكن، رياض الأطفال، الحضانات، المدارس، الملاعب الأولمبية، الرحلات الاستكشافية والاستجمامية، وأجوراً مرتفعة نسبياً في الستينيات والسبعينيات مقارنة بالغرب. وأكثر من هذا، بحسب كتاب ويستاد، عندما شعر قادته بأنّ الضغط على الاستهلاك يرتفع أخذوا يستوردون اللحوم والأجبان والأسماك الفاخرة من عوائد النفط والغاز. كانت في هذا “السستام” مشكلات عويصة فعلية. صحيح. لم تكن فيه تعدّدية حزبية. بالتأكيد. لكن في السبعينيات من القرن الماضي إنما: كان عدد مسجوني الحقّ العامّ في الاتحاد السوفياتي أقلّ منه في الولايات المتحدة بشكل نوعيّ، لكنّ عدد المعتقلين على خلفيّة أنشطتهم السياسية كان انخفض بشكل كبير. وحتّى في ظل غياب التعدّدية الحزبية، كانت مشاركة المواطن السوفياتي في الشأن العمومي أعلى من مشاركة المواطن الروسي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وفي ظل تعدّدية حزبية حبيسة البرلمان أو “دوما الدولة”. كانت المشكلة الكبرى هي اللامبالاة والتبلّد، وليس الإرهاب والقمع كما في العهد الستاليني.
إذاً الصورة هي أبعد ما تكون عن هذا الهزل المكرّر، في الآونة الأخيرة، من جهبذ هنا أو جهبذ هناك. هؤلاء ينعون انهيار نموذج اقتصادي في البلد، ويتحسّرون عليه، ويعتبرون أنّ الشيوعية، هكذا، تستبدّ بلبنان اليوم. ما الجامع المشترك بين فكرة الشيوعية وبين الحال اللبنانية الراهنة. إنّها فكرة المصادرة. الفارق: في لبنان، مصادرة أموال المودعين جزء من معادلة أساسية يجهد فيها الأكثر غنىً لتكبيد الأقلّ غنىً والأكثر فقراً معظم فاتورة الانهيار المالي. هي مصادرة في الاتجاه المعاكس تماماً لتلك التي يمكن وصف “الشيوعية” بها.
هل حقّق هذا النظام الاقتصادي، الذي يُتَباكى عليه عندنا، حدّاً أدنى من العدالة على مستوى الطبابة، السكن، التربية، التعليم، الرياضة، الاستجمام، ضمان الشيخوخة، كي يكون بإمكان المتباكين عليه التشاطر على الاتحاد السوفياتي؟
الطوابيرية لم تكن ثابتة طوال ذلك التاريخ. الطوابيرية، أو الوقوف في الطابور، هي المآل الحتمي لكل مجتمع يزهو نسقه بأنّه يستورد ولا يصدّر. الاتحاد السوفياتي، على الخلاف الشاسع مع هذا النموذج المنهار عندنا، كان لديه قاسم مشترك جزئي معه. فهو كان ينتج، لكنّه لم يكن يصدّر ما ينتج، وإنّما كان يصدّر ما لا ينتج، أي النفط والغاز. وهذه مفارقة أساسية لا يمكن تنحيتها عند تفسير تقويض أركانه.
إقرأ أيضاً: قنبلة الهند الكورونية (1): جذورها وأسبابها
ليس في البلد مشكلة يتيمة تختزل فيها كل المشكلات. لكن ما قام به النظام المالي عندنا لا يقلّ أبداً عن عناوين الانهيار والسقوط الأخرى. الرأسمالية على الطريقة اللبنانية تحبّ من يعفيها من المسؤولية. لكنّ من يعفيها من المسؤولية يعفي نفسه من نور العقل أيضا.
أفأنت تزدري نظاماً وفّر لشعبه الطبابة والسكن والتعليم والتربية، بل وأنفق على استيراد السلع الاستهلاكية بشكل متعاظم أرهق كاهل الدولة السوفياتية في النهاية؟
“يا مشحّر”!.