كتب الزميل نقولا ناصيف مقالاً في جريدة “الأخبار” بتاريخ 8 حزيران 2021 بعنوان “انتخابات 2022 الأبخس ثمناً”، حاول فيه استشراف بعض أوجه الإنفاق المالي الانتخابي، في الدورة المقبلة بعد سنة، ودور هذا الإنفاق في استمالة الناخبين، مميِّزاً بين الطوائف لجهة قابليّتها للاستتباع بهذه الطريقة.
فالمال، على حدّ قول ناصيف، يؤدّي “دوراً جوهرياً وحاسماً لدى بعضها، ودوراً متوسّط الأهمية لدى أخرى، وينعدم إلى حدّ كبير عند الطراز الثالث من الطوائف”. هنا دخل كاتب المقال في إطار ضبابي، ممّا لا يمكن القفز فيه فوق معطيات مبسّطة، للوصول إلى استنتاجات متسرّعة، وكأنّها تعبّر عن واقع ثابت، بمعنى أنّ طائفة بكاملها تُشرى وتُباع، وطوائف أخرى متعفّفة عن بيع أصواتها لأنّها صاحبة ولاء ومبدأ!
يقول الزميل ناصيف إنّ انتخابات العام المقبل ستكون الأبخس ثمناً، وإنّ الرئيس سعد الحريري سيكون عليه، في الوقت نفسه، إقناع ناخبيه السنّة بالاقتراع للوائحه من دون مال
وعندما استعرض ناصيف مواقف الطوائف من المال الانتخابي، بدأ بعكس الترتيب، من الطراز الثالث من الطوائف الذي ينعدم فيه أثر المال، أي الشيعة والدروز، فالطراز الثاني الذي للمال الانتخابي فيه دور متوسّط، أي المسيحيين. وانتهى بما بدأ به استنتاجه، أي القول إنّ أهل السُنّة هم الذين يخضعون خضوعاً حاسماً للمال الانتخابي، من دون أن يحاول شرح ذلك بالمعطيات الصلبة ولا بالإحصاءات العلميّة، وهو متوافر بغزارة لِمَن أراد الموضوعيّة في مقاله.
وبتعبير ناصيف، فإنه “ليس عجباً ملاحظة أنّ الناخبين الشيعة لا يشترطون المال للذهاب إلى التصويت للثنائي الشيعي. ما يجمعهم بالرئيس نبيه برّي رمز الرجل بما يمثّله وحركته، مقدار ما يجمعهم بحزب الله فكرة المقاومة وضمانها الممثّل في سلاحها. قضيتان كافيتان لأن لا يكون المال عصب الاقتراع”.
أمّا لدى الدروز: “عندما يقترعون لوليد جنبلاط ويمنحونه غالبية مقاعد الطائفة، إن لم يكن كلّها، فلأنّ المهمّة الوحيدة المنوطة بتاريخ المختارة أن يحميها، كي يقودها إلى الحرب، كما إلى السلم، في سبيل ذلك”.
…”أمّا المسيحيّون فيذهبون إلى الانتخابات النيابية، من غير أن تخلو طموحاتهم من متموّلين كبار في لوائحهم، من أجل مواصلة اقتتالهم في صناديق الاقتراع”.
…”وحدهم السُنّة، ويكادون يكونون وحدهم فعلاً، يقاربون الانتخابات النيابية بالمال. لم ينجرفوا إلى هذه الثقافة في حقبة ما قبل الحرب (أي قبل مجيء الرئيس رفيق الحريري)، وقد عرفت إنفاق مال على حملات الزعماء الكبار كالرؤساء سامي الصلح وصائب سلام ورشيد كرامي وعبدالله اليافي”.
بكلمة يصنّف ناصيف الطوائف اللبنانية وفق معيار ملتبس. فالشيعة طائفة مبدئية، والدروز طائفة ولائيّة، والسُنّة طائفة مصلحيّة، والمسيحيون في الوسط. ويجعل من المال الانتخابي عنصراً حاسماً في كسب الانتخابات لدى أهل السُنّة، فيما أثره منعدم لدى الشيعة والدروز، وأثره متوسّط عند المسيحيين. لكنّه، بتحليله هذا، يهمّش كلّ العناصر المادية الأخرى، من توظيف عشوائي في إدارات الدولة، بدءاً من انتهاء الحرب عام 1991، والعفو العام عن الجرائم، ودمج الميليشيات المسلّحة في الأجهزة الرسمية حين لم يبقَ لأهل السُنّة ميليشيا، ولا سيّما بعد تصفية حركة الناصريين المستقلّين “المرابطون” في بيروت عام 1985. ثمّ موارد الدولة، بتأثير من الأحزاب النافذة والممثّلة في البرلمان، التي أُغدقت على كثير من المناطق غير السنّيّة عبر الخدمات والبنى التحتية.
إلى ذلك، أقامت الأحزاب، ولا سيّما الثنائي الشيعي، مؤسسات متنوّعة الأهداف والوظائف، وهي ممتلئة بالمحازبين والمناصرين. ولك أن تتخيّل مدى الشعبية التي تتمتّع بها الأحزاب غير السنّيّة الآن، وخاصة الثنائي الشيعي المؤلّف من الحزب والحركة، بفضل الخدمات العامّة والخاصّة التي انهمرت على البيئة الشعبية في العقود الثلاثة التي أعقبت الحرب، ويقدّر عدد المسجّلين على لوائح المستفيدين مادّيّاً بشكل شهري من حزب الله خمسين ألفاً. ألا يصبّ كلّ هذا أصواتاً في صناديق الاقتراع؟ فكيف يكون شكل المال الانتخابي إذن؟ إنّهم يُعطون ناخبيهم على مدار الأعوام من أموال الدولة أو من المال السياسي الموظّف في مؤسّسات اجتماعية.
وعليه، فإنّ الولاء الشخصي أو الإيديولوجي لا يكفي لحسم المعارك الانتخابية على نحو ما تشهده الانتخابات منذ عام 1992. حتى هذا الولاء للزعيم أو للحزب، هو ناتج بدرجة كبيرة من الشعور الأقلّويّ وسط المنطقة السنّيّة بغالبيّتها. وهذا شعور مستعمل بمهارة لشدّ أواصر العصبيّة المذهبية فالحزبية.
عام 2018، معظم البيارتة لم ينتخب مديراً ظهره لكلّ اللوائح، ليس لقلّة المال المدفوع، بل لعدم الاقتناع وفقدان الثقة بالزعيم
في المقابل، دخل أهل السُنّة حقبة السلم من دون ميليشيات ولا مؤسسات مانحة. وهم كانوا أصلاً الأقلّ انخراطاً في الحرب الأهلية. ورفيق الحريري، الذي كان أقوى شخصيّاتهم في نهاية القرن المنصرم، لم يعمل على مبدأ الانتماء المذهبي. كان له أنصار في كلّ الطوائف. وخدماته لم تستثنِ أحداً من غير السُنّة. بل الحقّ يُقال إنّه دفع ثمن تواصله مع الطوائف. كان عابراً للطوائف، كما كان عابراً للحدود. والدليل أنّ الطائفة الأكثر معاناة الآن هي الطائفة السنّيّة. وأشدّ المناطق فقراً هي مناطق السُنّة. والأسباب متداخلة ومعقّدة. فالميليشيات المنتصرة هي التي تقاسمت غنائم ما بعد الحرب. وتعرّض المسيحيون للتهميش بعد نفي الجنرال ميشال عون، وسجن سمير جعجع، واغتراب الرئيس أمين الجميل منذ انتهاء ولايته عام 1988. ومع عودة الجنرال عام 2005، اشتدّت همّة التيار الوطني الحرّ لاستدراك ما فاته من الغنيمة في غيابه، وكانت التسوية الرئاسية عام 2016 هي الفصل الأخير من المأساة. وتحت عنوان استرداد الحقوق المسيحية من أهل السنّة خاصة، نشأ تحالف الأضداد بين التيار الوطني والقوات اللبنانية فيما سُمّي تفاهم معراب في العام نفسه، فاستُنزفت خزينة الدولة حتى الإفلاس والانهيار.
يقول الزميل ناصيف إنّ انتخابات العام المقبل ستكون الأبخس ثمناً، وإنّ الرئيس سعد الحريري سيكون عليه، في الوقت نفسه، إقناع ناخبيه السنّة بالاقتراع للوائحه من دون مال. وهنا تتناقض مقدّمة المقال مع خاتمته. ففي البدء، استند إلى مقولة مفادها أنّ رياض سلامة حاكم مصرف لبنان متواطئ مع الطبقة السياسية من خلال تعميمه الجديد رقم 158، الذي يفرض على المصارف دفع جزء من ودائع الجمهور بالدولار (400 دولار نقداً و400 بالليرة بسعر المنصّة)، معتبراً إيّاها رشوة للناخبين من الآن حتى حلول موعد الانتخابات، مضافاً إليها إقرار قانون “الكابيتال كونترول” في البرلمان، وأنّ انتخابات 2022 ستكون بخسة، لأنّ الناخبين سيقبضون الرشوة من ودائعهم. فإن كان الأمر كذلك، فكلّ الطوائف ستكون متورّطة حتماً بقبول الرشوة والبناء عليها لإعادة تجديد حياة الطبقة السياسية، فلماذا ينشغل تيار المستقبل وحده بدفع المال لناخبيه، كما يقول، ولماذا يتطلّع أهل السُنّة وحدهم إلى قبض ثمن أصواتهم كي ينتخبوا الحريري ولوائحه؟
للإجابة عن هذه النقطة، يكفي إيراد بعض الأمثلة، ومنها ما حدث في انتخابات عام 2018 في بيروت. وهو نموذج يمكن سحبه إلى ما قبل حقبة الحرب أيضاً. في حالات كثيرة، أخذ الناخب مالاً من مرشّح فانتخب غيره. وعددٌ لا يُحصى سجّل نفسه في ماكينة انتخابية لمرشّح واقترع لخصمه اللدود. وإن كان لشراء الأصوات تأثير مباشر في النتائج، فهو أثر هامشي جدّاً. بل تطوّرت الرقابة على الأصوات في الطوائف الأخرى المنضبطة بأدوات التسيير، بحيث لا يجرؤ معارضون على الترشّح، ولا على تشكيل لوائح، ولا على تنظيم حملة دعائية، ولا يجرؤ مستقلّون على انتخاب مرشّحين من خارج اللائحة المدعومة.
وقبل ذلك، يُسنّ قانون الانتخاب دائماً بما يخدم الطائفة الشيعية بدوائرها الانتخابية في الجنوب والبقاع. أمّا القانون الانتخابي الأخير فقد خدم الأحزاب المسيحية على نحوٍ فاقع، وبما يتعارض دائماً، وفي كلّ الأحوال، مع وزن الناخب السُنّي، الذي صنّفه ناصيف على أنّه اعتاد بيع أصواته لآل الحريري.
إقرأ أيضاً: قضية أهل السُنّة (1/2): المسار الوطنيّ والبديل الوطنيّ
على عكس ما حاول المقال إشاعته، فإنّ الناخبين السُنّة انتخبوا لأسباب مذهبية وسياسية بحتة في محطات فاصلة، عام 2000 ضدّ ما كان يمثّله الرئيس إميل لحود من ولاء لدمشق وتحالف مع الحزب. وأعادوا الكرّة عام 2005 عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وفي عام 2009 ردّاً على انتهاك حرمة العاصمة بيروت قبل عام، في 7 أيار المشؤوم وعبارة “اليوم المجيد” المشهورة التي أطلقها السيد حسن نصر الله لوصف هذا اليوم. أمّا عام 2018، فمعظم البيارتة لم ينتخب مديراً ظهره لكلّ اللوائح، ليس لقلّة المال المدفوع، بل لعدم الاقتناع وفقدان الثقة بالزعيم.