أعلنت وزارة الثقافة المصرية أول من أمس عن منح الدكتور رضوان السيّد جائزة النيل للإبداع العربي وهي الأعلى التي تُمنح لغير المصريين.
حكاية رضوان السيّد مع بيروت، بوّابة العالم بين الغرب والشرق بالاتجاهين، رحلة شائكة وشائقة في آن.
فمدينة العالم العربي، بانفتاحها على كلّ طريف وجديد، واجتذابها لكلّ صاحب رأي وفكر، كانت المنطلق والموئل لسيرة حافلة بالدرس والمطالعة، والبحث والكتابة، والتدريس والمحاضرة، وصولاً إلى عمق السياسة ودفائنها المركوزة في مواقع صناعة القرار.
الكتابة هي ما تفوّق بها على كثيرٍ من أقرانه، والقراءة المتواصلة هي ما فتحت له أبواب التميّز والإدراك. وفصاحة بيانه هي التي جعلته فارس المؤتمرات والمحاضرات واللقاءات. يشدّك بتمكّنه من العربيّة، كمثل تضلّعه بالثقافة الأوروبية. تتوارد أفكاره سهلة فوق متون كلماته
الفلسفة كانت منطلقه، هو الذي التزم تأريخ الفكر السياسي الإسلامي، ورصد أبحاثه في المكتبات حوالى العالم، وتحقيق مخطوطاته، والإشراف على أعمال الطلبة الراغبين بالتخصّص في هذا المجال الرحب، ما بين مرايا أمراء، وشذرات رؤى ونظريات، وسياسات شرعية. وإلى الفلسفة يعود، مسترجعاً القواعد والأسس لإرساء سرديّة معاصرة للإسلام. وفي الطريق، لا يهدأ وهو يجهد للاطّلاع على آخر منتجات الفكر في الغرب، وعلى ما يستجدّ من بحث وتأليف في الشرق. ومكتبته العامرة في بيروت، شاهدة على شغفه بالكتاب. وهو إلى ذلك غزير الكتابة، ما بين بحث محكَّم، ومراجعة نقديّة، ومقال رأي، وتحليل سياسي. وما أنجزه خلال رحلته الغنيّة دليل، وأيّ دليل، على صدق مقولة من قال: “لا يعطيكَ العلمُ بعضَه حتى تعطيَه كلَّك”.
الكتابة هي ما تفوّق بها على كثيرٍ من أقرانه، والقراءة المتواصلة هي ما فتحت له أبواب التميّز والإدراك. وفصاحة بيانه هي التي جعلته فارس المؤتمرات والمحاضرات واللقاءات. يشدّك بتمكّنه من العربيّة، كمثل تضلّعه بالثقافة الأوروبية. تتوارد أفكاره سهلة فوق متون كلماته.
في أواخر السبعينيات أو مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، بُعيد عودته من ألمانيا بسنوات قليلة، سمعته للمرّة الأولى في مركز نادي النجمة بالطريق الجديدة، وإلى جانبه الشيخ خليل الميس، وهو يُلقي محاضرة عن دور الشباب في بدء الدعوة الإسلامية. كان أسلوبه مختلفاً عن الشيوخ الأزهريّين، فلم تكن محاضرته لغة خطابية، بل بحثاً علمياً. وراح يسرد، بهدوء، أسماء الصحابة المشهورين الأوائل، وكم كان عمر كلّ واحد منهم في ابتداء الإسلام، للدلالة على دور الشباب في إقامة الدين، وفي تغيير المجتمع في مكّة، ثمّ في المدينة.
بعد ذلك بأقلّ من عشر سنوات، ضاعت منّي فرصة، كما ضاعت فُرص جيل كامل، بتعيين الجنرال ميشال عون رئيساً للحكومة. انحرف الجنرال منذ اللحظة الأولى عن المهمّة الموكلة إليه، وهي قيادة البلاد إلى حين انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتسهيل هذا الأمر لا تعقيده. وبدأت حروبه في الداخل ومع سوريا لتأمين وصوله هو لا غيره. في تلك الحقبة القلقة والحزينة، كنت في مرحلة دبلوم القانون العام في الجامعة اللبنانية، وكان عميد الكلية هو الدكتور محمد المجذوب، رحمه الله، وكان نجله طارق (الوزير الحالي) زميل دراسة. في ذلك الحين، كانت الجامعة على وشك افتتاح مجال المعلوماتية القانونية، فاختار العميد ثلاثة من فرع الصنائع، واجتاز بنا حاجز المتحف للجيش اللبناني بسيارته الخاصة، إلى مقرّ الإدارة في الجامعة اللبنانية. وهناك وقّعنا عقداً رسميّاً مفاده التدرّب والعمل على إدخال المواد القانونية في البرنامج الحاسوبي. كان مجالاً رائداً وواعداً. لكن الحلم انقطع في اليوم التالي مباشرة عندما أعلن الجنرال حرب التحرير في 14 آذار 1989 (استؤنف المشروع بعد انتهاء الحرب، لكن بعد نسيان العقد وكأن شيئاً لم يكن). بعد أشهر، امتهنتُ الصحافة على غير تخطيط منّي ولا تصميم، وكانت الحرب على وشك أن تُلقي أوزارها بعقد اتّفاق الطائف. لكنّ الصحافة هي التي ستجمعني مرّات أخرى مع رضوان السيّد، وآخِرتها في موقع “أساس”، ليس كمحاور له، بل كزميل!
لا يهدأ وهو يجهد للاطّلاع على آخر منتجات الفكر في الغرب، وعلى ما يستجدّ من بحث وتأليف في الشرق. ومكتبته العامرة في بيروت، شاهدة على شغفه بالكتاب. وهو إلى ذلك غزير الكتابة، ما بين بحث محكَّم، ومراجعة نقديّة، ومقال رأي، وتحليل سياسي
كانت المرّة الأولى عقب صدور كتابه “الجماعة والمجتمع والدولة، سلطة الأيديولوجيا في المجال السياسي العربي الإسلامي” عام 1997. كنتُ اتّفقت مع مدير مكتب جريدة الأنباء الكويتية على سلسلة حوارات أُجريها مع مؤلّفين لبنانيين، وكان الدكتور رضوان هو أحد خياراتي، فوافق المدير فوراً. اتّصلت بالدكتور، فحدّد لي موعداً في الفرع الأوّل لكليّة الآداب بالجامعة اللبنانية. وصلتُ إلى المكان، فوجدته ينتظرني وحيداً مُغمض العينين. قلتُ في نفسي، لعلّه نائم. سلّمتُ عليه فرحّب. قلتُ له إنّي قرأتُ كتابه، وأريد أن أساله عنه. فقال لي: “ابدأ”. مضيتُ في سرد أسئلتي الواحد تلو الآخر، وهو على حاله مُغمض العينين. وفي كلّ مرّة، يفتح عينيه ويتدفّق في إجابته، ثمّ يعود كما كان. كنتُ معتاداً تحرير الحوارات لأنّها ارتجالية وتحتاج إلى تدقيق. لكن حواري مع السيّد لم يتطلّب منّي سوى تفريغ الكلمات من المسجّل. فهو يتكلّم كما يكتب، أو يكتب كما يتكلّم!
المرّة الثانية كانت في أواخر عام 1999، والعالم أجمع يستعدّ لحدث رمزيّ كبير، وهو انتهاء الألفيّة الميلادية الثانية، وبدء ألفية ثالثة. وربّما ساورت البشريةَ مشاعرُ مشابهة لِما انتابها عام 999، من مخاوف وهواجس بشأن انتهاء العالم. في أيّ حال، استغلّت صحيفة عكاظ السعودية تلك المناسبة لاستطلاع آراء المفكّرين وما يتوقّعونه مع انبلاج قرن جديد، وكُلّفت بالأمر من مدير مكتب عكاظ ببيروت. حاورتُ المؤرّخ الرحّالة الدكتور نقولا زيادة في منزله، القريب من شارع الحمرا. فسأل خلال الحوار معه متهكّماً: “ما الفرق بين 1999 و2000؟ لا شيء. هو مجرّد رمز”. واتّصلتُ بالدكتور رضوان، طالباً موعداً لحوار. وافق. ذهبتُ إليه في مكتبه في جريدة المستقبل. وهو المبنى الذي كان المقرّ الرئاسي المؤقّت للرئيس إلياس الهراوي، عندما كان الجنرال عون مستعصماً بقصر بعبدا. كان شهر رمضان آنذاك، في كانون الأوّل. وموعد الإفطار قريب، وموعد اللقاء المرتقب قبل ساعة أو أكثر من أذان المغرب. كان الدكتور رضوان منشغلاً بمراقبة الرسوم الكاريكاتورية المنتظر نشرها في الجريدة. سلّمت عليه، فرحّب بلباقته المعهودة. قال لي: “ما الأمر؟”. قلتُ له: “موعدنا”. قال لي: “أنت تراني كم أنا مشغول”. خاب أملي، فأردت الانسحاب والانطلاق إلى منزلي ببشامون واللحاق بمدفع الإفطار، قبل أن أعلق في زحمة السير في منطقة الأوزاعي (قبل سنوات من افتتاح طريق المطار الجديد). فاجأني قائلاً: “إلى أين؟ ابقَ قليلاً”. جلست. فراح يحدّثني ساعة عن مواضيع شتّى. وأراني الرسوم التي يراقبها، لافتاً إلى أنّ بعض الرسّامين يتجاوزون، أحياناً، كمن يرسم سلّماً نحو السماء، قاصداً بقوله ما لا يمكن قبوله لدى بعض القرّاء، وأظنّ أنّ الرسم كان لفنّان سوري. قلتُ في نفسي: لو صرفنا الوقت في موضوع الحوار لكان لدينا الآن ما كنّا نبتغيه. اقترب موعد الغروب، فاستأذنتُ وخرجت مسرعاً. في ذلك اليوم، كان الضباب شديداً حتى على الأوتوستراد الساحلي. اخترقت السيارات الضباب في موضع من الطريق السريع، فلم يعد أحد يرى مكانه ولا أمامه. خفّفت من السرعة، وقلتُ لنفسي: ربّما اصطدمت إحدى السيارات بأخرى، فأتبيّن موضعي من الطريق. وبالفعل، سمعتُ صوت ارتطام بعيد. وصلتُ إلى مثلّث خلدة حيث انقشع الضباب، ولم أجد الحادث المفترض.
إقرأ أيضاً: رضوان السيّد: ثنائيّة الإصلاح الدينيّ والنهوض الوطنيّ
تلك الحادثة، أي عدم منحي حواراً كما كان مفترضاً، لم يغب عن ذهني لأشهر. لعلّها كانت طريقة الدكتور رضوان السيّد في الامتناع عن الكلام في ما لا يرغب فيه. ثمّ كانت مصادفة أخرى، جمعتني بالدكتور، في قصر الأونيسكو، وكان المكان يعجّ بأساتذة اللغة العربية والمهتمّين، في مؤتمر مخصّص لتعليم اللغة العربية. كنتُ مع صديق جزائري، هو شاعر ومتضلّع باللغة. وكنتُ أتحاور معه على الدرج في شؤون اللغة، ما بين محاضرتين، أو لدى انتهاء المؤتمر. صوتي مرتفع كالعادة، ولهجتي البيروتية المميّزة لا تُخطئها الأذن. فإذا بصوت مألوف، يصدح بي من الخلف قائلاً: “هل البيارتة يعرفون أيضاً اللغة العربية؟”. فوجئت بالكلام، فالتفتّ، فإذا هو الدكتور رضوان السيّد.