انتشرت منذ أيام صورة قائد الجيش جوزيف عون في دورة عسكرية حضرتها السفيرة الأميركية دوروثي شيا. ومعها انتشرت تعليقات تحقّر الجيش وتطلق عليه صفات “العمالة”، واتهامات بأنّ السفيرة الأميركية “وصيّة” على الدورة.
ليست المرّة الأولى التي تُشَنّ حملات على المؤسسة العسكرية وقائدها. فتارةً يتعرّض قائد المؤسسة الماروني لحملة على اعتباره مرشّحاً دائماً لرئاسة الجمهورية، وطوراً تتعرّض المؤسسة نفسها لحملات تُشكِّك في قدراتها العسكرية، ولحملات سخرية وتحقير تحمل في باطنها ما هو أكثر من حملات عفوية.
وعليه، لا بدّ من قراءة متأنّية لسرديّة الهجوم المركّز على المؤسسة العسكرية من بوابة ارتباطها بالولايات المتحدة الأميركية، ووضعها في سياقها انطلاقاً من الواقع السياسي في البلاد.
في عام 2005 بعد الانسحاب السوري من لبنان، أدّت خسارة المؤسسة، ومعها لبنان، للراعي الإقليمي، إلى فراغ مرحليّ ساهم في تحوّل حزب الله إلى راعٍ للوضع اللبناني بدلاً من السوري. منذ ذلك الحين، كثرت حملات التصويب على المؤسسة العسكرية، من دون غيرها من المؤسسات الأمنيّة
بدايةً لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المؤسسات الأمنيّة اللبنانية على اختلافها، من قوى الأمن وفرع المعلومات والأمن العام وأمن الدولة، ترتبط بالدعم الأميركي لها ارتباطاً عضوياً. ولا يقتصر هذا الدعم على المؤسسات الأمنيّة، بل ويطول البلديّات ضمن برامج المساعدات “USAID”، حتّى تلك التي تقع في مناطق تخضع لنفوذ حزب الله، أو بكلام آخر، تلك التي ينتخبها جمهور الثامن من آذار.
ولعلّ أبرز دليل على المساعدات الأميركية للأجهزة الأمنيّة هو سلاح هذه الأجهزة والتجهيزات التقنيّة والدورات التدريبيّة التي يخضع لها ضباط الأجهزة المختلفة. فلماذا التصويب فقط على المؤسسة العسكرية اللبنانية إذا كان الاعتراض فعلاً على “العمالة” للأميركيين، وهي العبارة التي يحلو لجمهور فريق الثامن من آذار استعمالها؟
لمحاولة الإجابة لا بدّ من استعادة حقبة إفرازات الحرب الباردة حين وُضِع لبنان تحت الرعاية الأميركية، وضمناً مؤسساته الأمنية كافةً، إلى أن خضع لرعاية سورية وسعودية، بموافقة أميركية، بعد انتهاء الحرب اللبنانية عام 1990. منذ ذاك الوقت، تضمّنت عقيدة الجيش “العداء لإسرائيل”، بعد انقسام البلاد في أثناء الحرب الأهلية بين يمين ويسار ومسيحيين ومسلمين.
في عام 2005 بعد الانسحاب السوري من لبنان، أدّت خسارة المؤسسة، ومعها لبنان، للراعي الإقليمي، إلى فراغ مرحليّ ساهم في تحوّل حزب الله إلى راعٍ للوضع اللبناني بدلاً من السوري. منذ ذلك الحين، كثرت حملات التصويب على المؤسسة العسكرية، من دون غيرها من المؤسسات الأمنيّة، في إطار استراتيجية التأثير على سيكولوجيا الجماهير، تارةً عبر الاستخفاف بقدراتها، وطوراً باتّهامها بارتباطات أميركية، في سبيل التأثير على وعي اللبنانيين ولاوعيهم لتغيير نظرتهم إلى جيشهم الوطني اذي يُفترض أن يكون جيش الدفاع الأوحد عن لبنان.
تحويل الجيش إلى تنفيعة
بناءً على ما سبق، لا بدّ من العودة إلى المحطّات التي مُنِع خلالها تجهيز الجيش بالسلاح الثقيل. ولعلّ آخر المحطّات إحباط محاولة تسليحه بطائرات “ميغ 29” (كانون الثاني 2008) تحت حجج تقنيّة مختلفة. في المقابل، لم يمنع هذا التصويب على المؤسسة العسكرية، من باب حصولها على دعم أميركي، القوى السياسية على اختلافها من الاستفادة من المؤسسة، التي تعتبرها هذه القوى صندوقاً يتحاصصونه في التعيينات والتقديمات، ويصوّبون عليه في السياسة والأمن.
العماد جوزيف عون فليس أوّل قائد يتعرّض للهجوم. لا يتعلّق الأمر بشخصه بقدر ما يرتبط بدوره. وهذا ما أثبتته التجربة سابقاً في الهجوم على إميل لحود وميشال سليمان وجان قهوجي، حين كانوا في هذا المنصب، بما لهم وما عليهم، مع اختلاف توجّهات كلّ منهم
قد تدحض القوى، التي تتقاطع مصالحها مع التصويب على الجيش، هذه القراءة، مستعينةً بأحداث عام 1993 يوم خرج الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بعد حادثة جسر المطار. يومها قُتل مجموعة من الشبان برصاص الجيش اللبناني، من مناصري حزب الله، خلال تظاهرة ضدّ اتفاق أوسلو. وأعلن يومها نصر الله احتواء الحادثة. قبل أن يكرّر الكلام عينه بعد أحداث مار مخايل عام 2008، التي سقط فيها أيضاً عدد من الشبّان برصاص الجيش، خلال احتجاجات مطلبية. يومئذٍ، بدا نصر الله، في خطابه، كالأخ الأكبر الذي يحتوي الأخ الأصغر، متجنّباً المواجهة مع المؤسسة العسكرية ومهدِّئاً جمهوره.
بين القراءتين، قد يكون مفيداً تذكّر الابتسامة الشهيرة للسيّد نصر الله، التي ارتسمت على وجهه، وهو يقول، على مضض، إنّ “الجيش نفّذ عملية فجر الجرود وحرّر الحدود اللبنانية من تنظيم جبهة النصرة”.
لم تكن تلك الابتسامة عابرة. فهي خير تعبير، بالنسبة إلى كثيرين، عن الإيحاء للجماهير، لينظروا إلى الجيش باعتباره قادراً على زراعة الشجر وأكل الأفاعي، لكن ليس على القتال.
ضرب أسس الدولة
اليوم، ومع تدمير مؤسسات الدولة بسبب فشل السلطة السياسية وتواطؤها على ضرب مفهوم الدولة لمصلحة المحاصصة ودولة الطوائف، لا تزال المؤسسة العسكرية تقاوم محاولات تفكيكها وإضعافها.
علينا أن نلحظ في ضرب هذه المؤسسة خطورة قصوى، لما له من أثر على وحدة الدولة. فالعراق مثال ليس ببعيد. هناك لا يزال العراقيون يدفعون ثمن حلّ جيشهم الوطني لمصلحة المجموعات المقاتلة المختلفة، وأبرزها الحشد الشعبي.
أمّا شخص العماد جوزيف عون فليس أوّل قائد يتعرّض للهجوم. لا يتعلّق الأمر بشخصه بقدر ما يرتبط بدوره. وهذا ما أثبتته التجربة سابقاً في الهجوم على إميل لحود وميشال سليمان وجان قهوجي، حين كانوا في هذا المنصب، بما لهم وما عليهم، مع اختلاف توجّهات كلّ منهم. لا يعني هذا الامر أن المؤسسة العسكرية فوق النقد ولا يعني أن كلاً منهم لم يكن له أخطاؤه، غير أنّ النقاش هنا في مكان آخر.
أمّا قوّة قائد الجيش اليوم فهي تنبثق من عاملين:
– الأوّل هو الدعم الغربي والعربي له، وصولاً إلى إصرار العديد من الدول على “ضرورة إيصال المساعدات إلى اللبنانيين عبر الجيش حصراً”.
– الثاني يرتبط بالدعم الغربي للجيوش العربية، من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج، باستثناء الجيش السوري المدعوم روسيّاً.
والجدير تأكيده أنّ الدعم الغربي والعربي للجيش يتزايد عندما لا تستطيع الدولة اللبنانية توفير حاجاته. وهذا ما يؤكّد حتميّتين:
– الأولى هي بقاء لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه.
– والثانية هي عدم السماح لأيّ حزب بالتحوّل إلى ميليشيا وتكريس فيدرالية طائفية – مناطقية شبيهة بأيام الحرب.
إقرأ أيضاً: قائد الجيش يعلن البلاغ رقم “1”
وعليه: هل مخطط ضرب الدولة، وضمناً جيشها الوطني، مقصود لتصبح سيطرة الأحزاب الأقوى تسليحاً وتنظيماً مشروعة؟ أم لا ثقة بعد بعقيدة الجيش القائمة على العداء لإسرائيل؟ وهنا بيت القصيد والسؤال الذي يتطلّب إجابة ضرورية.
في مفهوم الدول، جيش واحد يستطيع القول: “الأمر لي”. والحتميّة التاريخية تقضي بأن يكون الجيش الوطني وحده جيش الدفاع عن الوطن بوجه الأعداء من أيّ جهة كانوا. ومهما طال الزمن وتقلّبت الظروف السياسية والاجتماعية.
فهل يدرك بعض اللبنانيين هذه الحتمية؟
أم يعاندون مصرّين على تدمير آخر ما تبقّى من ضمانة استقرار البلاد ووحدتها؟