ليست حرب غزّة حدثاً عابراً. على العكس من ذلك، حرب غزّة هي نقطة تحوّل ستظلّ راسخة في تاريخ المنطقة، وستكون منطلقاً لنظرة جديدة إليها… إضافة إلى أنّه يمكن أن تؤسّس لحروب جديدة. غيّرت حرب غزّة، على خلاف سابقاتها، الكثير، فلسطينيّاً وعربيّاً وإقليميّاً ودوليّاً. حصل التغيير، بواسطة الصواريخ، من دون تجاهل المآسي العائلية والإنسانيّة والدمار الذي حلّ بالقطاع وأهله وما بقي من بنية تحتية متواضعة فيه.
لعلّ أهمّ ما غيّرته فلسطينيّاً هو صعودُ “حماس” وتحوُّلها إلى المُحاوِر الفلسطيني الأساسي، وذلك للمرّة الأولى منذ اتّخذت قمّة الرباط، في عام 1974، قراراً عربيّاً يعتبر “منظمة التحرير الفلسطينية الممثّل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني”. حصل تغيير فلسطيني في العمق، ولكن مع أسئلة في غاية البساطة: أيّ “حماس” صارت في الواجهة؟ هل “حماس” إيران؟ هل “حماس” قطر؟ هل “حماس” تركيا؟ أم هي “حماس” الفلسطينية التي تعتبر نفسها امتداداً لتاريخ نضالي طويل كان ياسر عرفات جزءاً لا يتجزّأ منه، بل في أساسه؟ كان عنوانُ هذا النضال القرارَ الفلسطينيَّ المستقلَّ الذي كان الراحل حافظ الأسد يصرّ على أنّه مجرّد “بدعة”.
بات يُفترض بـ”حماس” الإجابة عن الأسئلة المرتبطة أساساً بأهليّتها للدفاع عن القرار الفلسطيني المستقلّ، خصوصاً أنّ نتائج إطلاق صواريخ من غزّة لم تكن متوقّعة، وذلك بغضّ النظر عن مصدر الصواريخ التي أُطلقت من داخل القطاع ووظيفتها الإيرانيّة.
ما ينبغي توقّعه الآن، في ظلّ الفوضى السياسية العارمة في إسرائيل، وبعد بلوغ صواريخ “حماس” تل أبيب وإغلاقها مطار بن غوريون في اللدّ عدّة أيّام، أنّ الصواريخ ستكون موضوعاً أساسيّاً يفرض نفسه في أيّ مفاوضات من أيّ نوع مع إيران. باتت الإدارة الأميركية مقتنعة أكثر من أيّ وقت بأنّه لا يمكن عزل الصواريخ عن الملفّ النووي الإيراني والمفاوضات الدائرة مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في فيينا وغير فيينا.
بات يُفترض بـ”حماس” الإجابة عن الأسئلة المرتبطة أساساً بأهليّتها للدفاع عن القرار الفلسطيني المستقلّ، خصوصاً أنّ نتائج إطلاق صواريخ من غزّة لم تكن متوقّعة، وذلك بغضّ النظر عن مصدر الصواريخ التي أُطلقت من داخل القطاع ووظيفتها الإيرانيّة
لا شكّ أنّه سيتوجّب على الفلسطينيين حسم أمرهم في الأسابيع القليلة المقبلة. لا شكّ أيضاً أنّه سيكون عليهم تحديد من سيتولّى التفاوض باسمهم، وما بنود البرنامج الذي سيطرحونه. هنا أيضاً سيكون على حماس” توضيح ما إذا كانت لا تزال مهتمّة بالوحدة الفلسطينية وإجراء انتخابات تعيد إنتاج ما يسمّى القيادة الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الجديدة، أو إطار آخر يكون فيه دور واضح للحركة الإسلاميّة.
وما ينبغي توقّعه أيضاً، الآن، هو دور مصر الذي افتقدته المنطقة والعرب طويلاً. لا خيار آخر أمام مصر سوى أن تكون حاضرة في غزّة، لا لشيء إلّا لأنّ حال الانفلات التي سادت فيها طويلاً لم تؤذِ مصر وحدها، بل أضرّت بالاستقرار الإقليمي. لا يمكن المرور مرور الكرام على تركيز السياسة الإسرائيلية، منذ سنوات طويلة، على كيفيّة الاستفادة من مواقف “حماس”، خصوصاً منذ الانسحاب من القطاع صيف عام 2005. كان هدفُ إسرائيل من الانسحاب الإمساكَ بطريقة أفضل بالضفّة الغربيّة. هذا ما شرحه وقتذاك، بوضوح ليس بعده وضوح، دوف فايسغلاس مدير مكتب أرييل شارون، في حديث نشرته صحيفة “هآرتس”. قال فايسغلاس ما معناه أنّ الانسحاب الكامل من غزّة يستهدف التفرّغ للضفّة الغربية من أجل تكريس الاحتلال لجزء منها، وتطويق القدس عن طريق الاستيطان.
لا شكّ أنّه سيتوجّب على الفلسطينيين حسم أمرهم في الأسابيع القليلة المقبلة. لا شكّ أيضاً أنّه سيكون عليهم تحديد من سيتولّى التفاوض باسمهم، وما بنود البرنامج الذي سيطرحونه
بعد الصواريخ، التي أطلقتها “حماس” من غزّة، تغيّر المشهد الإقليمي كلّه، خصوصاً في ضوء ما فعلته الصواريخ إسرائيلياً وفلسطينياً وأميركياً، ودخول مصر على خط استيعاب الوضع. حصل التغيير بالصواريخ على الرغم من أنّ الهدف الأصلي من إطلاقها كان خطف انتفاضة أهل القدس في وجه الاحتلال، الذي أراد مصادرة مزيد من البيوت في حيّ الشيخ جرّاح غير البعيد عن المسجد الأقصى.
كان في نيّة الإدارة الأميركية الجديدة، برئاسة جو بايدن، تفادي أزمات الشرق الأوسط، واستبعادها عن سلّم الأولويات. اقتحم الشرق الأوسط البيت الأبيض من الباب الواسع. من الآن فصاعداً، لن يكون من مجال لتجاهل القضيّة الفلسطينية، خصوصاً بعدما أظهرت حرب غزّة خطورة الصواريخ، كما أظهرت، قبل ذلك، وحدة الشعب الفلسطيني، ومدى أهمّية وجوده على أرض فلسطين التاريخية، بما فيها الداخل الإسرائيلي.
مثلما استُخدمت الصواريخ انطلاقاً من غزّة، يمكن أن تُستخدم من لبنان، حيث لدى “حزب الله” عشرات آلاف الصواريخ… وربّما تُستخدم من سوريا.
إقرأ أيضاً: إيران نقلت الحرب إلى داخل إسرائيل
كان لافتاً أنّ الصواريخ، التي تمتلكها ميليشيات موالية لإيران، تُستخدم أيضاً في العراق، مع تركيز خاص على أهداف أميركية. في السياق ذاته، لم يتوقّف الحوثيون (أنصار الله)، وهم أداة إيرانية في اليمن، عن مهاجمة الأراضي السعودية، ليس بالصواريخ فحسب، بل بواسطة طائرات من دون طيّار أيضاً. لا بدّ من العودة بالذاكرة إلى أنّ ما أثّر في الإدارة الأميركية السابقة، التي اغتالت قاسم سليماني، هو ذلك الهجوم الذي شنّته إيران بواسطة صواريخ مجنّحة طويلة المدى على منشآت نفطية سعودية تابعة لشركة “أرامكو” في المنطقة الشرقيّة من المملكة في أيلول 2019. أضرّ ذلك الهجوم بإنتاج النفط السعودي لبضعة أيّام. كان الاعتداء الإيراني كافياً كي تستيقظ إدارة دونالد ترامب، وتأخذ علماً بخطورة الصواريخ الإيرانية ومدى دقّتها.
مثلما اقتحمت القضيّة الفلسطينية البيت الأبيض، بفضل وحدة الشعب الفلسطيني أوّلاً، والصواريخ التي أُطلقت من غزّة ثانياً، لن يكون من مجال بعد الآن، لا لتجاهل القضيّة الفلسطينية ولا لتجاهل الصواريخ الإيرانيّة. الشرق الأوسط تغيّر. سيتغيّر أكثر إذا أحسن الفلسطينيون، بمساعدة مصر والأردن، إدارة الصراع مع إسرائيل في ظلّ إدارة أميركية سيستحيل عليها تجاهل أنّه لم يعد ممكناً الفصل بين الصواريخ الإيرانية والبرنامج النووي الإيراني، بما سيُعقّد إلى حدّ كبير أيّ تفاهم أميركي – إيراني في المدى المنظور.