حين كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله يلقي خطابه السنوي في ذكرى تحرير الجنوب، في 25 أيّار الجاري، بدا، مُتعَباً، بكثرة السُعال. شرح أنّه مصاب بالحساسية الموسمية، وقيل إنّها الكورونا. لكن بأيّة حال، ومهما كان تعبه، بدا المعنى المجازي للمشهد أكثر تناسباً مع اللحظة، من السبب الصحّي.
أكثر ما بقي من الخطاب في الإعلام الدعوة التي وجّهها إلى الرئيس نبيه برّي كي يطلب منه العمل على تعجيل ولادة حكومة جديدة في لبنان. بدا خطاباً شديد المحلّيّة، وإن تخلّله استفاضة في الحديث عن الإقليم. في حين كانت الإقليمي أكثر راهنية في خطابات 25 أيّار السابقة.
اللحظة كانت… في مكان آخر.
بعد 48 ساعة، في 27 أيّار، أطلّ من على شاشة “الجزيرة”، رجلٌ مغمورٌ، لم نسمع به إلا نادراً، وما انتبه أحدٌ منّا لا إلى اسمه ولا إلى دوره. والباحث عن خطابه الطويل، الذي قارب ساعتين، مع الأسئلة والأجوبة من الصحافيين، سيجد مقابلات معه عمرها أربع سنوات وثلاث سنوات، وسنتان… وكلّها لا يزيد عدد مشاهدات الواحدة منها على يوتيوب على آلاف قليلة أو عشرات آلاف في أفضل الأحوال.
هو رجلٌ مغمورٌ، رئيس حركة “حماس” في غزّة منذ عام 2017، لكنّنا اعتدنا أسماءَ “إسماعيل هنيّة” و”خالد مشعل” وغيرهما. أسماء باتت مقيمة في فنادق قطر، وأحياناً بيروت وتركيا، وسابقاً ولاحقاً سوريا.
رجلٌ اسمه لا يرنّ في الذاكرة ولا يضيء في الأذن. لكن من شاهد مؤتمره الصحافي الأخير، حين تحدّث لساعتين تقريباً، بلغة عربية بليغة، وبمخارج حروف لا تشوبها شائبة، وبأفكار شديدة الترابط، وبنبرة واثقة، وبتسلسل منطقيّ في السرد، وبقدرة عالية على التوصيف السياسي، وبسلاسة في التعبير بشكل عام، وبلغة جسد متناسقة، وبحماسة مضبوطة… سيدرك أنّ إعجاب السُنّة بأسامة بن لادن كان حالة عابرة، وسط العطش السنّي إلى صورة القائد أو الزعيم.
حين يُقال إنّه منذ عبد الناصر، لم نجد زعيماً عربياً بشعبية عارمة، يخرج من يقول: “صدّام”، بابتسامة بريئة، ويخرج من يقول: “أسامة بن لادن”، بابتسامة ماكرة. والاسمان يرنّان. لكنّ الأوّل كان أقرب إلى “الحماقة” في المواجهة السياسية، والثاني كان مصنّفاً إرهابياً، في نظر معظم أنحاء الكوكب.
هو رجلٌ مغمورٌ، رئيس حركة “حماس” في غزّة منذ عام 2017، لكنّنا اعتدنا أسماءَ “إسماعيل هنيّة” و”خالد مشعل” وغيرهما. أسماء باتت مقيمة في فنادق قطر، وأحياناً بيروت وتركيا، وسابقاً ولاحقاً سوريا
أمّا السنوار اليوم، وعلى الرغم من قسوته، وما هو مثبت من أنّه مارس القتل والاغتيالات في غزّة وغيرها، وعلى الرغم من أنّه ينتمي إلى حركة مصنّفة إرهابية في معظم أنحاء العالم، هي حركة “حماس”، إلا أنّ قضيّته، على الرغم من بعدها الديني تأسيساً وتشغيلاً، تحمل بُعداً أخلاقياً لا غبار عليه، وبُعداً إنسانيّاً لا يمكن لأيّ عربيّ أو أميركي أو غربي أن يناقش فيه: “مقاومة هدفها تحرير الوطن بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي الاستيطانيّ والوحشيّ”.
هنا يتفوّق السنوار أخلاقياً على بن لادن، لكن لا نعرف بعد إذا كان أداء “حماس” في ظلّ قيادته سيكون أكثر ذكاءً من صدّام، الذي قصف تل أبيب، وكان عنيداً وقليل الدهاء، حتّى غَزَوْهُ في داره ووجدوه مختبئاً في حفرة تحت الأرض. مشهدٌ لم تنجح مرافعاته خلال محاكمته، ولا موته شنقاً، في إنقاذ صورته منه، بعدما ضربتها تلك الحفرة وذلك العناد.
عشرات الملايين تسمّروا أمام الشاشات لمتابعة السنوار على “الجزيرة”. رجل أسمر البشرة، يبدو واضحاً أنّه قويّ البنية، نحيف، لا أثر في جسمه للشحوم التي تأتي من رغد العيش و”هنيّته”. ملامح مُقاتل، وفي شيبته الكثير من الهيبة، خصوصاً حين نقرأ سيرته، فنعرف أنّه بدأ حياته مناضلاً، واعتُقل قبل أن يكمل عامه العشرين، ثمّ في سنّ الـ23، ومجدّداً في سنّ الـ26، حين حُكم أربعة مؤبّدات، ليخرج في صفقة تبادل بعد 23 عاماً أمضاها في سجون إسرائيل، بين جدرانٍ أربعة. ثمّ تدرّج في القيادة ليصير رئيس “حماس” في غزّة، ورئيسها المعنويّ، على الأرض.
أمضى السنوار نصف حياته في المعتقلات الإسرائيلية، ونصفها الآخر مقاتلاً. في اليوم التالي بعد خطابه وزّع صورته جالساً على واحد من كنبات صالونه، أمام منزله المدمّر في غزّة، ليقول للإسرائيليين إنّهم أخطأوا ولم يستطيعوا قتله. وحين أنهى خطابه، وسأله أحد الصحافيين إن كان معرّضاً للقتل، أجابه: “سأعود إلى منزلي سيراً على الأقدام”، في تحدٍّ غير مسبوق للآلة العسكرية الإسرائيلية. وعاد ماشياً، متحدّياً، غير آبهٍ بالتهديد الأمني.
في خطاب السنوار، كان الكلام مُحكماً إلى درجة أنّه راح يسخر من الاستخبارات الإسرائيلية. تحدّاهم حين قال لهم إنّه لم يصدّق “خدعة” الإيحاء بالاستعداد لهجوم برّي “من أجل حشر 500 من مقاتلي النخبة في حماس داخل الأنفاق تمهيداً لضربها”. وأعلن: “أخلينا الأنفاق لأنّ استخباراتنا كانت دقيقة بأن لا هجوم بريّاً”. وسخر من محاولات اغتيال القادة الفاشلة. وأضاف بحرفة: “فشلٌ استخباريٌّ مروّع. لو كان لقيادتهم السياسية شأن لقطعت رؤوس المسؤولين عن العملية الاستخبارية”.
تزامن خطابه أيضاً مع نشر “نيويورك تايمز” صور الأطفال الـ66 الذين قتلتهم إسرائيل في حربها الأخيرة على غزّة، والطفلين الإسرائيليّين اللذين قتلا بقصف فلسطيني، مع نبذات سريعة عن حياة وأحلام كلّ طفل منهم. وفي هذا دليل على تغيُّر في المزاج الإعلامي الأميركي اتجاه الفلسطينيين، ومعهم بوجه العنف الإسرائيلي. وبالتالي يستفيد السنوار من التغيّر في المزاج العالمي حيال الفلسطينيين وقضيتهم، وحيال الإسرائيليين وعنفهم.
في خطاب السنوار، كان الكلام مُحكماً إلى درجة أنّه راح يسخر من الاستخبارات الإسرائيلية. تحدّاهم حين قال لهم إنّه لم يصدّق “خدعة” الإيحاء بالاستعداد لهجوم برّي “من أجل حشر 500 من مقاتلي النخبة في حماس داخل الأنفاق تمهيداً لضربها”
السنوار، في هذا المعنى، ليس الفلسطيني الإرهابي. إنّه الفلسطيني الذي على حقّ. وفي الوقت نفسه، استطاع أن يقدّم صورة “الفلسطيني القوي”. قبل ذلك، بعد الزعيم أبو عمار، ياسر عرفات، كان الفلسطيني هو الضعيف الذي يجب أن نتضامن معه.
كان الإعلام يفضّل أن ينقل صورة الفلسطيني باعتباره رجلاً منهاراً، مثل والد الطفل محمد الدرّة، المقتول ابنه في حضنه، والذي يبكي عجزاً ويصرخ يأساً… أو طفلاً يحمل حجراً بوجه دبّابة، بكلّ ما في هذه الصورة من تحدٍّ وكبرياء وشجاعة، لكن من ضعفٍ وهوانٍ وضآلةٍ، أو صورة امرأة تصرخ بوجه جنديّ مدجّج، بكل ما فيها من غياب للقوّة وللرجل وللتوازن… أو صورة شابات يبتسمنَ للكاميرات فيما يعتقلهنّ جنود إسرائيليون في القدس، بكلّ ما في الفيديو من حداثة وتصالح مع العصر من جانب الشابة، وما فيه من جبروت إسرائيلي بوجه حداثة زماننا وآليّاته وشروطه.
مع السنوار، جاءت صورة مختلفة. وهو يدرك في وعيه الواضح هذا الأمرَ. فقد بدأ خطابه مُشيداً بياسر عرفات، وبفضله على فلسطين وقضيّتها: “التحية كل التحية لروح القائد الخالد أبو عمار”. وهي دعوة واضحة إلى رفض الإساءة إلى ذكراه من قبل مناصريه الحمساويّين.
هنا التقط السنوار أنّ خطابه هذا هو استمرارٌ لمسيرة أبو عمار النضالية. وفي هذا تصالح مع الحقيقة، نتيجته أو هدفه أن يأسر قلوب الفتحاويين، كما الحمساويين، في لحظة إعلان النصر الغزّاويّ على المستوى السياسي.
في خطابه، استطاع السنوار، للمرّة الأولى، أن يقول كلاماً “من فوق” لإسرائيل: من موقع القوّة، بناءً على ما حقّقه الفلسطينيون في مواجهة العدوان الأخير عليهم. فحين تحدّث عن المسجد الأقصى، ولماذا تدخّلت “حماس” دفاعاً عنه، يقول بالحرف: “حذّرناهم ولم يرتدعوا ولم يصدّقوا… وما يكون لحرّ إلا أن يجيب بمثل ما أجبتم”. بلغة إسلامية، وبقوّة إيحائية كبيرة، تربط بين فكرة “الحريّة” بمعناها الإسلامي، وبين السلاح والمواجهة والقتال، على الرغم من وجود الخطر والنتائج القاسية لهذه “الحريّة”.
السنوار، في هذا المعنى، ليس الفلسطيني الإرهابي. إنّه الفلسطيني الذي على حقّ. وفي الوقت نفسه، استطاع أن يقدّم صورة “الفلسطيني القوي”. قبل ذلك، بعد الزعيم أبو عمار، ياسر عرفات، كان الفلسطيني هو الضعيف الذي يجب أن نتضامن معه
ثمّ يضيف في موضع آخر: “وأنا أقول لكم اليوم، كان هدفنا في هذه المعركة هو توصيل رسالة، وهي ليست المعركة الحقيقية، وإذا قدّر الله سبحانه وتعالى، ولزم أن تكون المعركة الحقيقية، فسيرى العدوّ ما يسوؤه وما يسعد قلوب الأحرار في جميع العالم”، وهو يلوّح بسبّابته اليسرى، بدل اليمنى، التي يلوّح بها نصر الله.
استنسخ السنوار، بالتأكيد، الكثير الكثير من مواهب نصر الله الخطابية. أبرزها الثقة بالنفس، والقدرة على التهديد، استناداً إلى قوّة جرّبها المشاهدون والمناصرون، وفحصها الأعداء المستهدَفون. وبالتالي، هذا الاسم الذي لم ننتبه إليه، جاءنا اليوم وهو يحمل إنجاز قصف تل أبيب وإرساء معادلة توازن مع إسرائيل، ولو كان التوازن مختلّاً بشكل كبير جداً لمصلحة الإسرائيليين. لكنّه استطاع الوصول به إلى مرتبة الجلوس على الجهة الأخرى من الميزان، للمرّة الأولى في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
إقرأ أيضاً: يحيى السنوار: قاسٍ على الفلسطينيين أيضاً
خرج علينا السنوار بسبّابته المُحِقّة أوّلاً، والقادرة ثانياً، والتي تريد أن تبني صدقيّتها مع المُشاهِد، عدوّاً كان أم صديقاً.
هي السبّابة السُنّيّة هذه المرّة.
أحد القادة العرب قال مرّة، في عزّ صعود نصر الله: “نحمد الله أنّه ليس سُنّيّاً”.
اليوم، السنوار هو رجل قويّ، سُنّيّ، وذكيّ.
على العرب أن يستدركوه، قبل أن يذهب بعيداً في نصفه الإيراني والقطريّ. وهو لم يكن إيرانياً في خطابه الأخير، ولم يكن تصادميّاً.
لا يزال أمامنا وقت. لعلّنا نتعلّم من التجربة.
السنوار هو الاستثناء الفلسطيني… لا تتركوه وحيداً.