حين كانت تتناهى إلى أسماعنا الألقاب الأكاديمية المبجّلة لشخصيات تنتمي إلى الجماعات الإسلامية المتفرّقة، كنّا نعجب كيف أنّ هذا “الدكتور” أو ذاك “البروفيسور” لا تتلاءم محصّلة معارفه مع ألقابه. لكنّ العجب سرعان ما يزول حين نكتشف أنّ معظم هؤلاء درسوا الفقه أو الشريعة أو الحديث أو التفسير، والقليل جدّاً من اللغة أو القانون أو العلوم البحتة. ويحيى إبراهيم السنوار، زعيم حركة حماس في قطاع غزة، هو من تلك القلّة التي درست اللغة العربية في الجامعة الإسلامية، وتخرّج فيها بشهادة البكالوريوس، وكان من بين أصدقائه القيادي محمد دحلان. لكنّ خبرته لم تأتِ من نطاق المدارس، بل من الأمن والسجن. والأمن والسجن يمثّلان الأكاديمية الأهمّ التي يتخرّج فيها قادة المنظمات المقاتلة، ويتهيّأون لتسلّم المواقع السياسية. ويحيى السنوار هو من هذا الطراز الذي انتقل من السجن مباشرة إلى عضوية المكتب السياسي لحركة حماس قبل أن يُنتخب خلفاً لإسماعيل هنيّة في 13/2/2017.
في مصر كان يتناقل مالكو الأرض كلاماً عن “مكر الفلاحين”. أمّا في فلسطين فيسير كلامٌ عن “حكمة أبناء الفلاحين”، الذين لا يتردّد الواحد منهم في تقبيل رؤوس الآخرين، بمن فيهم الذين لا يتّفق معهم في الأهواء السياسية. ويبدو يحيى السنوار (أبو إبراهيم) كأنّه يتقن ذلك كله. فقد ظهر في مهرجان تأبين ضحايا العدوان الإسرائيلي في 22/5/2021 بقميص أزرق ذي أكمام طويلة بين حراسه الكُثُر، ومن دون سلاحه الفردي، وراح يقبّل معارفه ويقبّل رؤوس أبناء الشهيد باسم عيسى (أبو عماد) قائد لواء غزة في كتائب عز الدين القسّام. ولم ينسَ أبو ابراهيم بعد ذلك إرسال التحية إلى ياسر عرفات، مذكّراً الناس بقصة السفينة “كارين A” التي استقدمها أبو عمار محمّلة بالأسلحة. وقال إنّ “حركة حماس بصواريخها تقتدي بياسر عرفات ونضاله ضد الاحتلال”. وكانت تلك الإشارة طريقة لذمّ أنصار حركة حماس المنتشين الذين لم يتورّعوا عن شتم ياسر عرفات ووالدته في مسيرة هائجة وغوغائية في رام الله، ومحاولة ذكية للتملّص من الاعتذار.
في مصر كان يتناقل مالكو الأرض كلاماً عن “مكر الفلاحين”. أمّا في فلسطين فيسير كلامٌ عن “حكمة أبناء الفلاحين”، الذين لا يتردّد الواحد منهم في تقبيل رؤوس الآخرين، بمن فيهم الذين لا يتّفق معهم في الأهواء السياسية. ويبدو يحيى السنوار (أبو إبراهيم) كأنّه يتقن ذلك كله
عُرف يحيى السنوار بأنّه هو الذي أسّس “منظمة الجهاد والدعوة” (مجد) مع رفيقه روحي مشتهى. وهذا الجهاز الأمني ظهر في سنة 1985، وكان تابعاً لجماعة الأخوان المسلمين حين لم تكن حركة حماس قد ظهرت بعد. فهي أُسِّست في أواخر سنة 1987، بحسب الرواية الحمساوية التي أرادت أن يتطابق تاريخ تأسيسها مع تاريخ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وفي سياق عمله في ذلك الجهاز اشتهر يحيى السنوار بالقسوة والتهوّر أحياناً، الأمر الذي أوقعه في مطبّات كثيرة، كما قال عنه رفيقه محمد أبو طير. وهي إشارة، على الأرجح، إلى تصفية بعض الأشخاص على محمل الظنّ، مثل محمود اشتيوي، وربّما أيمن طه. ومهما يكن الأمر، فإنّ القسوة صفة رافقت السنوار في السجن، وفي الحياة السياسية. ففي السجن تداول كثيرون قصّته مع الأسير منصور الشحاتيت، الذي أمضى 17 عاماً في المعتقلات الإسرائيلية. فقد اختلفا في سنة 2009، في داخل سجن نفحة، جراء انتقاد الشحاتيت حركة حماس بسبب اقتحامها مسجداً في قطاع غزة وتدميره على مَن فيه بعد اعتصام إحدى المجموعات السلفية خلف أبوابه. وعلى هذا المنوال تشوب القسوة لغته السياسية، فلا يتورّع عن القول: “سأكسر عنق كلّ مَن لا يريد المصالحة”… وهكذا.
ولد يحيى السنوار في 29/10/1962 في مخيم خان يونس، وأصل عائلته من مجدل عسقلان الواقعة في أراضي 1948. اعتُقل أوّل مرّة في سنة 1982 لمدّة أربعة أشهر، ثمّ ثمانية أشهر في سنة 1985 بتهمة تأسيس جهاز أمني لجماعة الأخوان المسلمين. وفي سنة 1988، اعتقل مجدّداً، وحُكِم بالمؤبّد أربع مرات. وتمكّن من دراسة العبرية في داخل سجنه. وأُطلق سراحه في صفقة التبادل مع الجندي جلعاد شاليط في سنة 2011. على الفور بادر إلى الزواج في 21/11/2011 من فتاة غزِّيّة تدعى سمر أبو زمر، فأنجبت له ابنه إبراهيم وابنة.
عُرف يحيى السنوار بأنّه هو الذي أسّس “منظمة الجهاد والدعوة” (مجد) مع رفيقه روحي مشتهى. وهذا الجهاز الأمني ظهر في سنة 1985، وكان تابعاً لجماعة الأخوان المسلمين حين لم تكن حركة حماس قد ظهرت بعد
أدرجته الولايات المتحدة الأميركية على قائمة الإرهاب في أيلول 2015، إلى جانب محمد الضيف وروحي مشتهى. وامتاز عن معظم أقرانه بكشف بعض التفصيلات لا إخفائها. فقد أذاع في 4/11/2019 أنّ تبرّعات دولة قطر المتراكمة على مدى سنوات لحركة حماس بلغت نحو مليار دولار، مع أنّ العلاقة المالية بقطر تثير اعتراض كثيرين في قطاع غزة الذين يعتبرون ذلك شراء للتهدئة مع إسرائيل. وقال إنّ إيران هي التي بَنَتْ القدرة العسكرية لحماس ودعمتها بالمال والسلاح والخبرات، مع أنّ كثيرين أيضاً لا يرتاحون إلى العلاقة مع إيران جراء التنافر المذهبي.
إقرأ أيضاً: محمّد “ضيف” غزّة (2/2): وداعاً مشعل.. أهلاً بشّار
تسلّم يحيى السنوار ملف الجنود الإسرائيليين الأسرى في تموز 2015، ولم تصل المفاوضات غير المباشرة، التي أدارها المفاوض الألماني غيرهارد كونراد مع عاموس جلعاد والسنوار، إلى أيّ نتيجة. والواضح اليوم أنّ ورقة الأسرى باتت ضعيفة إلى حدّ ما، لأنّ اثنين من أولئك الأسرى ماتا وهما هدار غولدن وأورون شاؤول، فيما أبراهام منغستو (فالاشا) وهشام السيد (عربي بدوي) لم يُعرف مصيرهما تماماً، وإسرائيل غير مستعجلة على الوصول إلى نهاية لهذه المسألة لأنّها لا ترغب في دفع ثمن كبير لقاء إطلاق الجنديين والجثّتين، كما فعلت عند إطلاق الجندي جلعاد شاليط، فذلك سيمسّ بقدرة الردع الإسرائيلية، إذ إنّ كثيراً من الشبان الفلسطينيين سيزدادون اقتناعاً بأنّ في إمكانهم مقاتلة إسرائيل من دون الخوف من بقائهم طويلاً في سجونها، لأنّهم على يقين من أنّهم سيُحرَّرون بصفقات تبادل، كما حدث ليحيى السنوار نفسه. ومثلما اجتاز قطوع كورونا التي أُصيب بها في 1/12/2020، نجا من الموت حين قصفت الطائرات الإسرائيلية منزله في 16/5/2021. وها هو الآن يصول في غزة ويجول غير هيّاب ولا وَجِل.