حمل العدد الأخير من مجلة “إيكونوميست” البريطانية عنوان “دولتان أم دولة؟”، وتطرّق في افتتاحيّته وفي موضوعه الرئيس إلى جوانب القضية الفلسطينية كافة.
وكان لافتاً أن الافتتاحية وموضوع الغلاف يعلنان بما لا يدع مجالاً للشكّ، تغيّراً في المزاج الإعلامي، وفي الرأي العام البريطاني، شبيهاً بالتغيّر الذي بدا واضحاً في الصفحة الأولى من “نيويورك تايمز”، التي نشرت صور 66 طفلاً قتلتهم إسرائيل في حربها الأخيرة على غزّة، ومعهم طفلان إسرائيليان فقط.
“إيكونوميست” تعلن صراحةً أنّ إسرائيل هي الظالمة، وأنّ الفلسطينيين يتعرّضون لسياسة فصل عنصري، ولسياسة توسعية إسرائيلية خارج القانون الدولي، منذ العام 1967.
في هذا الجزء الأوّل من الترجمة، إضاءة على بعض هذه الأفكار البريطانية الجديدة.
مما جاء في الافتتاحية:
“ألا تبدو ضئيلةً الجهود والوقت المبذول من أجل السلام؟ ضئيلةً أكثر من أيّ وقت مضى. فقد بدأت أميركا في الإشراف على المحادثات بين الإسرائيليين والفلسطينيين قبل ثلاثة عقود. لكنّ الأرض المقدسة لا تزال موضع نزاع بين شعبيْن لا يستطيعان أن يتعايشا. ولم يحقّق القتال، الذي وقع في أيار وخلّف 242 قتيلاً من الفلسطينيين وعشرة إسرائيليين، أيّ شيء سوى إخلاء الميدان للجولة التالية من القتال.
تهدف عملية السلام، التي بدأت في اتفاقات أوسلو في عام 1993، إلى إنشاء دولتين تتفقان على الاختلاف من خلال مبادلة الأراضي، والضمانات الأمنيّة، واتفاق لتقاسم القدس، و”حقّ العودة” المحدود للاجئين الفلسطينيين. وكانت جائزة إسرائيل هي أن تكون ديموقراطية مزدهرة وملاذاً لليهود. بالنسبة إلى الفلسطينيين، كان ذلك وعداً بالحكم الذاتي. وفي بعض الأحيان، كان السلام قريباً بشكل مثير، إلا أنّه انحسر مرّة أخرى وسط تبادل الاتّهامات.
لكن، اليوم، بدلاً من أن تكون “عملية” الدولتين طريقاً إلى السلام، فإنّها تسدّ الطريق. الجميع يتظاهر بأنّ السلام لا يزال على جدول الأعمال، في حين أنّه، في الواقع، ليس كذلك. وهذه صيغة الصراع. يمكن تأجيل كلّ ما يهمّ تقريباً، مع الوعد بحلّه في يوم من الأيام في صفقة تلوح في الأفق على الدوام. وهي أيضاً صيغة تؤدّي، افتراضياً، إلى دولة واحدة.
وفي ظلّ فكرة الدولتين، تراجعت رؤية فلسطين ذات سيادة قابلة للحياة ومتّصلة. فالأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية هي أرخبيل في بحر واسع من المستوطنات الإسرائيلية، غير القانونية بموجب القانون الدولي.
مأزق إسرائيل
وجاء في موضوع الغلاف التالي: “بدلاً من الجهود الراكدة التي تبذلها الدولتان، فإنّ الرؤية الفلسطينية الجديدة هي المطالبة بحقوق فردية في دولة واحدة. ويشعر الموجودون في غزة والضفة الغربية بالاستياء من حاجتهم إلى إذن إسرائيل (الذي غالباً ما يُحجَب) للسفر لرؤية أسرهم. وقد تأجّج القتال الأخير بسبب نزاع على الممتلكات في القدس الشرقية، حيث معظم الفلسطينيين مجرد “مقيمين”. حتى العرب الإسرائيليون يشكون من عدم المساواة، الذي ازداد خلال القتال في غزة”.
“إيكونوميست” تعلن صراحةً أنّ إسرائيل هي الظالمة، وأنّ الفلسطينيين يتعرّضون لسياسة فصل عنصري، ولسياسة توسعية إسرائيلية خارج القانون الدولي، منذ العام 1967
هذا يترك إسرائيل في مأزق. فقد ازدهرت في ظلّ أوسلو. ونما الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد بأكثر من النصف في السنوات الثلاثين الماضية. فنظامها الدفاعي الصاروخي من القبّة الحديدية يحميها إلى حدّ كبير من هجمات حماس. والقيادة الفلسطينية المنقسمة والضعيفة تناسب رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، الذي لا يبدي اهتماماً كبيراً بالفلسطينيين. ليس هو فقط، بل إنّ الصراع لم يظهر كثيراً في أيّ من الانتخابات الأربعة التي أجرتها إسرائيل منذ عام 2019.
لا يمكن أن يدوم هذا الوضع. وتتيح ورقة التين في أوسلو لإسرائيل الادّعاء بأنّ الاحتلال سيتم التراجع عنه في اتفاق نهائي. وإسرائيل، بوصفها السلطة المؤقتة المسؤولة، ليس من واجبها توسيع نطاق حقوقها الكاملة لتشمل الضفة الغربية. لكن بعد مرور 54 عاماً على حرب الأيام الستة، أصبحت فكرة الاحتلال المؤقّت جوفاء على نحو متزايد.
وبدون أمل في التوصّل إلى اتفاق، بدأ منتقدو إسرائيل يتحدّثون عن “واقع الدولة الواحدة”. وهذا يتحدّى إسرائيل: لمّا كانت الأرض المقدسة تضم العديد من غير اليهود مثل الفلسطينيين، فإنّها لا يمكن أن تظل يهودية وديموقراطية في الوقت الذي تسيطر فيه بشكل دائم على كل تلك الأراضي. والآن يقارن العديد من منتقدي السياسة الإسرائيلية، بمن فيهم بعض اليهود الليبراليين، معاملة الفلسطينيين، بـ”سياسة الفصل العنصري”.
وقد بدأت المطالبة الفلسطينية بالحقوق تلقى صدىً في الخارج. وتحديداً في قاعات الكونغرس الأميركي. ومن خلال ربط إسرائيل بالحزب الجمهوري، ساهم نتانياهو في جعل الفلسطينيين جزءاً من الحروب الثقافية بين الأميركيين. والتقدميون في الحزب الديموقراطي بدأوا يعلنون أنّ حياة الفلسطينيين مهمّة.
أميركا تتغيّر أيضاً
أميركا هي أهم حليف لإسرائيل. صحيح أنّ المساعدات الأميركية أقلّ أهمية ممّا كانت عليه، وتنتج إسرائيل الآن معظم أسلحتها المتقدّمة. ولديها علاقات مع المزيد من البلدان، بما فيها جيرانها العرب من خلال “اتفاقات إبراهيم”. لكن إذا انجرفت بعيداً عن أوروبا وأميركا نحو بلدان مثل روسيا والصين والهند، فإنّ ذلك سوف يشكل ضربة لإسرائيل باعتبارها المثل الأعلى الغربي والليبرالي والديموقراطي.
بدأت المطالبة الفلسطينية بالحقوق تلقى صدىً في الخارج. وتحديداً في قاعات الكونغرس الأميركي. ومن خلال ربط إسرائيل بالحزب الجمهوري، ساهم نتانياهو في جعل الفلسطينيين جزءاً من الحروب الثقافية بين الأميركيين
والأهمّ من ذلك أنّ “معاداة” نتانياهو تجعل بلاده أقلّ قدرة، من أيّ وقت مضى، على الإبحار في مستقبل مع الفلسطينيين. إنّ احتضانه لليمين المتطرّف اليهودي يجعل الثورات أكثر احتمالاً، حتى في الوقت الذي يشعل النار في الفلسطينيين المتشدّدين، ويشهد على ذلك العنف الطائفي الأخير في المدن الإسرائيلية. وقد أدّى الجدار، الذي يعزل إسرائيل عن الضفة الغربية، إلى تعميق انعدام الثقة بين العرب واليهود. وقد أصبحت المستوطنات، التي كان يعتقد أنّها قابلة للتفاوض، عقبات دائمة أمام السلام.
…
خدم الوضع الراهن إسرائيل بشكل جيّد، لكنّه لن يدوم. فعاجلاً أم آجلاً، سيكون هناك جردة حساب تتطلّب صيغة جديدة للعيش إلى بجانب الفلسطينيين. والالتزام باتفاق أوسلو، مع تقويضه عمليّاً، يغذّي واقع دولة واحدة، لأنّه يجعل من الصعب تحقيق دولتين.
يبدأ السلام دائماً بالاعتراف بالواقع. وهو يتجذّر من خلال تحسين الحياة وتجديد السياسة، ويمكن أن يزدهر إلى شيء جديد. ثمّ، في يوم من الأيام، يمكن للأطراف البدء بالحديث مرّة أخرى عن اتفاق، سواء على دولة واحدة أو اثنتين.
إقرأ أيضاً: شهداء غزّة: كانوا أطفالاً فقط…
لقد مرّت ثلاثة عقود تقريباً منذ أن تصافح ياسر عرفات، الزعيم الفلسطيني الراحل، وإسحاق رابين، رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت، في حديقة البيت الأبيض في عام 1993، بعد توقيع اتفاقات أوسلو. وقد عزّزت تلك اللحظة المفعمة بالأمل عملية سلام رسمية من شأنها أن تنشئ دولة فلسطينية، وتنهي نصف قرن من الصراع. كان من المفترض أن يحدث ذلك في غضون خمس سنوات. ولكنّ الأمل، للأسف، أفسح المجال لليأس.
كان المقصود من السلطة الفلسطينية صرح الحكم الذاتي، الذي أُنشئ بعد اتفاقات أوسلو، على أن يكون “لفترة انتقالية لا تتجاوز خمس سنوات”. وقد جاء ذلك الموعد النهائي وذهب، رغم أنّ الطرفين اقتربا من التوصّل إلى اتفاق في عام 2000 في قمة كامب ديفيد، خلال أسبوعين من المحادثات المعزولة بين إيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، وياسر عرفات.
في الجزء الثاني غداً: اسرائيل تمارس الفصل العنصري