انتظرت الحكومة المستقيلة 132 يوماً بعد إقرار البنك الدولي قرضه للبنان، لترسل إلى مجلس النواب مشروع القانون المعجل الخاص بإقرار البطاقة التمويلية وفتح اعتماد استثنائي لتمويلها.
لكنّها خطوة لا تبدو كافية لتذليل العقبات أمام المشروع الذي فعل البنك الدولي كل ما في وسعه لإطلاقه، لسبب بسيط هو أنّ برنامج البطاقة التمويلية مرتبط باستحقاق يخافه السياسيون ويحجمون عنه: رفع الدعم أو ترشيده.
“صدف” أن وقّع وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني مشروع القانون المعدّ من قبل رئاسة الحكومة في يوم اجتماعه بوفد من البنك الدولي أمس، لبحث كيفية تنفيذ ما أطلق عليه “المشروع الطارئ لدعم شبكة الأمان الاجتماعي”، والرامي إلى توفير إعانات نقدية لنحو 150 ألف أسرة، وما يقارب 90 ألف تلميذ. ومن فرائد القدر أنّ المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي ساروج كومار جاه طلب على الملأ من وزير المال العمل “مع الجهات الحكومية المختلفة للمساعدة على بدء تنفيذه فوراً”. ثم لم يجد المسؤول الدولي حرجاً في أن يحضّه على “ضرورة التحرك بشكل سريع، نظراً إلى حاجة المواطنين إلى المساعدة”، كما لو أن البنك الدولي أحرص على فقراء لبنان من الدولة!
فلماذا تعيق الدولة، بسلطتيْها الإجرائية والتشريعية، تنفيذ مشروع البطاقة التمويلية، عن سابق إرادة وتصميم؟ وهل يتوقّف التعطيل عند هذا الحدّ مع توقيع مشروع القانون المعجّل وإرساله إلى مجلس النواب؟
الكلام السائد أنّ “البطاقة التمويلية” متأخّرة لعدم وجود تمويل لها، في إغفالٍ، يبدو متعمّداً، لحقيقة أن مجلس إدارة البنك الدولي أقرّ في 12 كانون الثاني الفائت قرضاً للبنان بقيمة 246 مليون دولار لتمويل السنة الأولى من البرنامج. لكن ما حصل بعد ذلك أنّ الدولة اللبنانية استغرقت شهرين من المماطلة والنقاش، ليقرّ مجلس النواب اتفاق القرض في 12 آذار الفائت، بعدما أدخلت النقاشات النيابية تعديلات وشروطاً عقيمة عليه. وفي تلك الجلسة وعدت نائبة رئيس الوزراء وزيرة الدفاع في حكومة تصريف الأعمال زينة عكر ببدء صرف الأموال إلى الأسر خلال شهر واحد. وقد مرّ شهران ونصف الشهر حتى الآن قبل أن ترسل الحكومة مشروع القانون اللازم لبدء تنفيذ البرنامج.
لماذا تعيق الدولة، بسلطتيها الإجرائية والتشريعية، تنفيذ مشروع البطاقة التمويلية، عن سابق إرادة وتصميم؟ وهل سيتوقف التعطيل عند هذا الحد مع توقيع مشروع القانون المعجل وإرساله إلى مجلس النواب؟
تصرّفت السلطة مع البنك الدولي بالخفّة نفسها التي أظهرتها في التفاوض مع صندوق النقد الدولي من قبل. وكما خرجت أصوات البنوك المفلسة حينها لتزعم أنّ بإمكان لبنان الخروج من الأزمة من دون الحاجة إلى صندوق النقد، أخذ النواب يتفنّنون في إضافة شروط إلى اتفاق القرض مع البنك الدولي، كما لو أنّ البنك يتوسّل للبنان ليقبل بالقرض.
ما حصل يتجاوز التقليد اللبناني الراسخ في المماطلة، فما هو واضح أنّ الحكم والحكومة يريدان قرض البنك الدولي ولا يريدان الالتزام بشروطه المالية والتنظيمية، ويخجلان من قول ذلك.
دون الحصول على دولارات البنك الدولي عقبات كثيرة، يمكن تلخيص أبرزها في ما يلي:
1- أولى العقبات وأخطرها أنّ البرنامج برمّته مصمّم لتوفير شبكة أمان اجتماعي تتزامن مع رفع معظم الدعم عن السلع الأساسية والخدمات. وليس منتظراً من البنك الدولي أن يصرف دولاراً واحداً قبل أن تخطو الدولة خطوات ملموسة في هذا الاتجاه. وتلك كرة نار شعبية يهابها الجميع، حتى لو أبدى رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل استعداده “للمهمة الانتحارية”.
2- تجدّد الإشكال المتعلق بسعر الصرف الذي ستُصرف على أساسه المساعدات. فالبنك الدولي وافق على مضض على منح المساعدات بالليرة اللبنانية وفق سعر صرف يُحدد بالاتفاق مع مصرف لبنان، وفق معادلة معينة تستند إلى “أعلى سعر منظم”. وقد كانت تلك المعادلة تفضي إلى 6240 ليرة مقابل الدولار تقريباً، وبالتالي تحصل كل أسرة على 200 ألف ليرة مبلغاً مقطوعاً مهما كان عدد أفرادها، يضاف إليه مبلغ 100 ألف ليرة لكل فرد، بحدّ أقصى ستة أفراد، لتغطية الحاجات الغذائية الأساسية. وبذلك يكون الحدّ الأقصى لِما تحصل عليه الأسرة الواحدة 800 ألف ليرة شهرياً.
إلا أن هذه المعادلة لم تعد صالحة بعد ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية من نحو 8000 ليرة عند التوصّل إلى هذا التفاهم، إلى نحو 12500 ليرة حالياً، وبعد إطلاق المنصة الجديدة لمصرف لبنان التي أفرزت سعر صرف شبه رسمي (منظم)، يبطل مفعول سعر المنصة السابقة البالغ 3900 ليرة، والذي كان الأساس في إرساء التفاهم السابق مع البنك الدولي. ولعلّ هذا ما يفسّر الانقلاب المفاجئ لموقف مصرف لبنان أخيراً، من المطالبة بصرف المساعدات بالليرة إلى تأييد صرفها بالدولار.
3- الشروط التي يضعها البنك الدولي للحوكمة، ومنها إنشاء جهاز لرفع المظالم في وزارة الشؤون الاجتماعية، وتوقيع اتفاق مع برنامج الأغذية العالمي ليتولّى تنفيذ المشروع، وتعيين جهة ثالثة للمتابعة والرصد للتحقّق من أهليّة المستفيدين.
4- استمرار التجاذب حول “السجلّ الاجتماعي الوطني” الذي تحدّد على أساسه الأسر المستفيدة من البرنامج. فهناك من يدفع إلى أن يكون الارتكاز على منصّة البلديات المشتركة (Impact)، إذ يمكن الأحزاب أن تنفذ من خلالها إلى تحديد قوائم المستفيدين.
جعلت هذه العقبات مَن بيدهم الأمر يتقاعسون عن تلبية شروط البنك الدولي، فاستمر الدعم بما يفوق طاقة الدولة حتى الرمق الأخير من احتياطات مصرف لبنان، لتكون المعادلة المطروحة أمام الشعب: إمّا الجوع والعتمة، وإمّا مدّ اليد إلى التوظيفات الإلزامية المتبقية لدى مصرف لبنان، أي إلى أموال المودعين. نجمت تلك المعادلة عن استنفاد خيارات التمويل نتيجة إخراج لبنان من أسواق الدين تماماً منذ عدّة سنوات، والاعتماد الكامل على احتياطات مصرف لبنان لتمويل “العجز التوأم” في الميزانية العامة والحساب الجاري على حدّ سواء، بفاتورة باهظة فاقت خمسين مليار دولار خلال سنوات قليلة.
ما حصل يتجاوز التقليد اللبناني الراسخ في المماطلة، فما هو واضح أن الحكم والحكومة يريدان قرض البنك الدولي ولا يريدان الالتزام بشروطه المالية والتنظيمية، ويخجلان من قول ذلك
يمكن اعتبار قرض البنك الدولي أول أوكسجين تمويلي يحصل عليه لبنان من الخارج منذ انفجار الأزمة. وهو، وإن كان لا يحل المشكلة الكبرى، إلا أنه ضروري لوقف استنزاف احتياطات مصرف لبنان. أما الإطار الأوسع لمشكلة التمويل، فلا حل لها في الأفق المنظور إلا بثلاث نقاط محددة:
أولاً: إخراج ملف الدعم من مصرف لبنان وتحويله إلى وزارة المال.
ثانياً: إصدار وزارة المال سندات دولارية (يوروبوندز) بقيمة تراوح بين مليار وملياري دولار، لا يتجاوز أجلها سنتين، يغطيها مصرف لبنان بالكامل، وتكون مخصصة لإعادة هيكلة قطاع الكهرباء وتغطية ما تبقى من مصاريف الدعم.
ثالثا: إطلاق التفاوض الجادّ مع صندوق النقد الدولي والدائنين لإعادة تأهيل لبنان للعودة إلى أسواق الدين في مهلة لا تتجاوز السنتين.
إقرأ أيضاً: السلطة تجوّع 147 ألف عائلة: من يعلّق أموال البنك الدولي؟
الخيار البديل الأخطر الذي يمكن أن تلجأ إليه الدولة هو أن تمضي بالبطاقة التمويلية من دون إصلاح مدروس للدعم، ومن دون تمويل خارجي، فتستسهل، كما درجت العادة، التمويل بليرات يطبعها مصرف لبنان، كما فعلت حين أقرّت سلسلة الرُتب والرواتب.
تلك السلسلة دمّرت قيمة الليرة، ودحرجت الأحداث وصولاً إلى 17 تشرين الأول 2019.
هذه المرّة سيكون التدحرج أكبر ممّا يتخيّله عقل السلطة الصغير.