صدر للزميل نبيل هيثم كتاب من إصدار “دار بلال للطباعة والنشر” في آذار 2021، يتناول فيه مذكّرات ووقائع محطّات مشوّقة من الدروس السياسية يقصّها الرئيس نبيه بري عن كثب، وشارك في اتّخاذ أكثر من قرار مفصليّ فيها.
وقد عرّف الزميل نبيل هيثم كتابه “الثقب الأسود” بالقول في نهاية المقدّمة التي عنونها “أوّل الكلام.. تحية وسلام”:
“برعاية مباشرة من دولة الرئيس، وُفِّقتُ في إعداد هذا الكتاب، متضمّناً ما يجب أن يُعرف عن نبيه برّي، وما يجب أن يُحكى ويُقال عن محطّات غنيّة وغاية في الأهميّة، عبرها نبيه برّي منذ عام 2005، ويسرد وقائعها وأحداثها ويوميّاتها بين دفّتيْ هذا الكتاب”.
تقديراً للقامة الوطنية التي يمثّلها الرئيس نبيه برّي، وإسهاماً في فتح النقاش والحوار حول هذه المحطّات، ينشر “أساس” أجزاء من الكتاب في سلسلة من الحلقات.
في الحلقة الرابعة يتحدّث الرئيس نبيه برّي عن إعلانه وفاة 8 و14 آذار والهدف من هذا الإعلان.
سليمان يسلّم الفراغ!
سعيت، من خلال إعلان وفاة فريقي “8 آذار” و”14 آذار”، إلى أن أُحدث صدمة سياسيّة تنسف الاصطفافات التي نشأت منذ عام 2005، وشكّلت غطاء لمَن هو فاعل سياسيّاً وحاضر شعبيّاً، ولمَن هو غير فاعل وغير حاضر، وكانت السّبب في القسمة السياسيّة والمذهبيّة والشعبيّة التي عصفت بالبلد طوال السّنوات الماضية، وكانت السّبب الأساس أو المسبّب للفراغ الرئاسي وشلل المؤسّسات والعجز عن توليد القوانين الكبرى، وفي مقدّمها قانون الانتخابات النيابيّة.
أذكر أنّني فور إعلان وفاة الفريقين، تلقّيت ردوداً أثنت على هذا النّعي، وبعضها قال إنّه مستعدّ لأن يشارك في الدّفن. وقالت بعض الأصوات من الفريقين إنّ توصيفي لواقع “8 آذار” لم يكن دقيقاً، وفيه شيء من المبالغة، لكنّ المثير للضحك أنّ هذه الأصوات هي نفسها كانت تهمس في السرّ بما هو أكثر من موت سريريّ للفريقين، وبأنّه آن الأوان لكي نخلص نهائياً من هذا الاصطفاف.
أذكر، في هذا السياق، أنّ النائب سعد الحريري آنذاك، في إحدى جلساتي معه، قال لي: “معك حقّ، خُلِص 14 آذار”.
فقلت له: “.. لا تنسَ “8 آذار”، فلم يعد له وجود أيضاً”.
تشتّت فريقيْ “8 آذار” و”14 آذار” ظهر جليّاً وبكلّ وضوح، خلال الاستحقاق الرئاسي قبل انتخاب الرئيس ميشال سليمان، وظهر أيضاً في أجواء الاستحقاق الرئاسي حينما شارفت ولايته على الانتهاء. وأمّا المعاناة المريرة والصعبة والطويلة، فدخل فيها لبنان بعد انتهاء ولاية سليمان، وامتدّت لأكثر من سنتين، حيث خلط هذا التشتّت أوراق الطرفين بعضها بالبعض الآخر
أنا لم أظلم الفريقين على الإطلاق، وبالتأكيد لم يكن لنَعيِي فريقيْ “8 آذار” و”14 آذار” وقعٌ مريح لدى بعض القوى التي كانت منضوية تحت عنوان “8 آذار”، لكنّها لم تعبّر عن أيّ اعتراض علنيّ على موقفي، إلّا أنّ بعض الأصوات من فريق “14 آذار” استمرّت في انتقادها لموقفي، فعذرتها لأنّها كانت ترتزق تحت هذا العنوان، ولا تستطيع أن تجد نفسها أو أن تكون لها فعّاليّة أو حضور خارج إطار “14 آذار”، فكان هدفها الإبقاء على “14 آذار” موجودة، ولو بالاسم أو العنوان فقط.. يعني الإبقاء على باب “الرّزق” مفتوحاً.
تجاوزتُ تلك الأصوات، ومضيت في زرع فكرة وفاة الفريقين في الذهن اللبناني، وكان القصد من نَعيِي لهما أن يدرك الناس والقوى السياسيّة أنّ تلك الاصطفافات أثبتت عجزها عن ابتكار الحلول وتقريب المسافات السياسيّة، وأن تنتقل القوى السياسيّة إلى اصطفاف آخر يأخذ العبرة ممّا سلف، ويؤسّس لشراكة فعليّة وكاملة في تحقيق “النّصاب الوطني” الذي يوفّره اجتماع الكلّ على كلمة سواء، ونظرة واحدة إلى المصلحة العامّة.
ومن هنا، كان كلّ جهدي وتركيزي منصبّيْن على توفير “النّصاب الوطني”، الذي يسهل معه إنهاء مسلسل الفراغ الرئاسي، وحال الخواء السياسي واللاتوازن، وتوفير أيّ نصاب، سياسيّاً كان أو عدديّاً، في أيّ استحقاق، ووقف التخبّط في التباينات والانقسامات التي لا تنتهي، والتعطيل المتبادل في شتّى المجالات والمؤسّسات والاستحقاقات.
أشير هنا إلى أنّ تشتّت فريقيْ “8 آذار” و”14 آذار” ظهر جليّاً وبكلّ وضوح، خلال الاستحقاق الرئاسي قبل انتخاب الرئيس ميشال سليمان، وظهر أيضاً في أجواء الاستحقاق الرئاسي حينما شارفت ولايته على الانتهاء. وأمّا المعاناة المريرة والصعبة والطويلة، فدخل فيها لبنان بعد انتهاء ولاية سليمان، وامتدّت لأكثر من سنتين، حيث خلط هذا التشتّت أوراق الطرفين بعضها بالبعض الآخر.
إقرأ أيضاً: الثقب الأسود (3): لائحة البطريرك صفير لرئاسة الجمهورية
في البداية تبنّى سعد الحريري ترشيح سمير جعجع، لكنّه ما لبث أن تراجع عن هذا الترشيح، وتبنّى ترشيح النائب سليمان فرنجية. ثمّ حصل انقلاب مفاجىء 180 درجة في موقف جعجع، فبادر إلى ترشيح خصمه اللدود النائب ميشال عون.
حتّى في النزول إلى مجلس النوّاب، في جلسات انتخاب رئيس الجمهوريّة، لم تنزل “8 آذار” كلّها مجمعةً على مرشّح واحد، ولم تنزل “14 آذار” كلّها مجمعةً على مرشّح واحد، بل تجزّأ الطرفان، واختلط حابل الترشيح بنابله، بحيث أنّ جزءاً من “8 آذار” كان ينزل إلى تلك الجلسات مع مَن ينزلون إليها من “14 آذار”، وجزءاً آخر كان يقاطع مع المقاطعين، والعكس صحيح. وكانت الكتلة النيابية الوحيدة، التي كانت تنزل إلى مجلس النوّاب “من ساسها لراسها”، ولم تقاطع أبداً منذ أوّل جلسة لانتخاب رئيس الجمهوريّة، هي كتلة التنمية والتحرير.