هل ينقلب السحر على الساحر؟ سؤال يرسم المنظور القلق والمسكون بالتناقضات، الذي يتناول من خلاله صحافيون إسرائيليون أحداث الضفة الغربية. مفاهيم مثل “الشراكة التاريخية” بين الشعبين، ثمّ الاعتراف بـ”الاحتلال الذي لا نهاية له للفلسطينيين”، ووصف هؤلاء بأصحاب “الهجمات الإرهابية”، استُخدِمت جميعها في مقال واحد للصحافي الإسرائيلي الوسطي يوسي كلين هاليفي في “نيويورك تايمز”. وإن وردت ضمن موقف واحد، إلا أنّها تشي بأنّ الأحداث الأخيرة كشفت الإسرائيليين على “أزمة وجودية” ملازمة للكيان.
فهل يمكن اعتبار أنّ التناقضات هذه، بحدّ ذاتها، تشكّل انتصاراً يُبرِز وهن هذه العقيدة التدميرية وأباطيلها أمام أعين أصحابها والرأي العام العالمي؟
الطرح الآتي سيأتينا بالتفاصيل.
إنكارٌ أم تأقلم؟
يعتقد الكاتب أنّ إسرائيل اليوم تعيش حالة إنكار لهول الواقع، حيث يبدو “الإسرائيليون بارعين في ادّعاء عودة الأمور إلى طبيعتها”. ويتبنّى، بطريقة ليست غريبة عن الإسرائيليين، منطق الضحيّة، كأنّ إسرائيل كيان مظلوم يتعرّض للانتهاك: “تعرّضت جبهتنا الداخلية لهجمات من صواريخ سكود أطلقها صدّام حسين، وكاتيوشا حزب الله، وصواريخ دقيقة، وصواريخ حماس المحلية الصنع، والنماذج الإيرانية الأكثر فتكاً التي تسقط حالياً على أحيائنا، إلى جانب التفجيرات الانتحارية وعمليات الدهس والطعن”.
هل يمكن اعتبار أنّ التناقضات هذه، بحدّ ذاتها، تشكّل انتصاراً يُبرِز وهن هذه العقيدة التدميرية وأباطيلها أمام أعين أصحابها والرأي العام العالمي؟
ويلخّص ما يصفه بـ”روح التأقلم الإسرائيلية” في عبارة ساخرة لكن صادقة هي “Lo na’im، lo norah”، أي أنّ ما يحدث ليس لطيفاً ولكنّه ليس فظيعا.
التعايش
يستغرب هاليفي، بغرابة بالنسبة إلى قارىء عربي، كيف “يقوم المواطنون العرب والمواطنون اليهود بمهاجمة بعضهم بعضاً بعنف”، أثناء سقوط الصواريخ.
ويسأل “كيف نتغلّب على الكراهية والخوف؟”، متناولاً الاضطرابات والتدمير الذي حصل في منطقة مطار بن غوريون، والمشهد في حيفا: “نموذج تعايشنا”، حيث يسود “توازن هشّ ولكنّه دائم”.
ويقيم مفارقة بين أسوأ عنف شهده الملف الفلسطيني – الإسرائيلي منذ عام 1948، والعنف الراهن الّذي تلا “أكثر عام واعد في التاريخ المشحون للعلاقة العربية اليهودية”، كأنّه نسي صفقة القرن؟
ويعتمد في نظرته الإيجابية على أزمة كورونا، التي قرّبت المواطنين العرب، أكثر من أيّ وقت مضى، إلى النظام الصحي الإسرائيلي، الذي يعتبر من أكثر المجالات تقدّماً في مجتمعهم. فوفقاً لتقديرات الحكومة، نحو 17% من الأطباء و24% من الممرّضات هم من العرب.
ويسترجع بروباغندا وسائل الإعلام الإسرائيلية في المستشفيات التي أظهرت طبيبات يرتدين الحجاب، وتناولت قصّة ممرضة عربية كانت تتلو القرآن ليهوديّ متشدّد على فراش الموت.
وفي غضون ما يعتبره مناخاً لـ”التعايش”، كانت إسرائيل اليهودية في حالة انسداد سياسي.
ويشرح: “بعد أربعة انتخابات غير حاسمة في غضون عامين، وصلت إسرائيل اليهودية إلى طريق مسدود. كان من المسلّم به أنّ الأحزاب العربية لا تساعد على تشكيل الائتلافات الحاكمة. ولم يرغب السياسيون العرب في المخاطرة بدعم حكومة في حالة حرب مع غزّة أو لبنان. ولم يرغب السياسيون اليهود في إعطاء الشرعية لسياسيين عرب دعموا أحياناً الهجمات الإرهابية ضدّهم”.
علاوة على ذلك، كان الفلسطينيون منفتحين للتعاون، فيوضح الكاتب أنّ “الناخبين العرب كانوا يطالبون بأن يصبح ممثّلوهم مؤثّرين في الساحة السياسية، حتى لو كان ذلك يعني التقليل من أهمية الأجندة القومية الفلسطينية لمصلحة القضايا المحلية الملحّة، مثل تصاعد جرائم العنف في المدن العربية”.
لذلك يأسف لكون الأحداث الأخيرة قد أدّت إلى انهيار “الشراكة التاريخية”، في تشخيص عجيب لشراكة قائمة على طرد العُزَّل من البيوت واغتصاب الأرض وقتل الأبرياء.
يستغرب هاليفي، بغرابة بالنسبة إلى قارىء عربي، كيف “يقوم المواطنون العرب والمواطنون اليهود بمهاجمة بعضهم بعضاً بعنف”، أثناء سقوط الصواريخ
هويّة مدنيّة مشتركة
ينتمي هذا الكاتب إلى “معسكر الوسطيّين”، الذين يصرّون على أن تشكّل إسرائيل هوية مدنية مشتركة بين العرب وغير العرب، ويقول إنّ “قدرة إسرائيل على تشكيل هوية مدنية مشتركة للعرب واليهود ترتبك بسبب الوضع الأمني. إذ يسأل اليهود كيف يمكنهم الوثوق بأقليّة متحالفة ثقافياً وعاطفياً مع أعدائهم، ويرفض سياسيّوها هويّة الدولة اليهوديّة”.
ويشير إلى “تعزيز هذه الرسالة في سنة 2018 بقانون الدولة القومية، الذي أقرّه اليمين على الرغم من اعتراضات الوسط واليسار، والذي يعرِّف إسرائيل بالدولة اليهودية، متجاهلاً هويتها الديموقراطية”، على اعتبار أنّ الكنيست قد أصدر قوانين تضمن حقوقاً متساوية للجميع.
نرصد هنا عجزاً آخر للهويّة الإسرائيلية في التعريف بنفسها، في “إعلان استقلال إسرائيل” الذي استشهد به الكاتب، ويعتبر إسرائيل “وطن جميع اليهود، سواء كانوا مواطنين إسرائيليين أم لا. دولة جميع مواطنيها، سواء كانوا يهوداً أم لا”.
إقرأ أيضاً: فلسطين وحسابات المرابحة: الحياة أهمّ من العدالة أحياناً؟
في المحصّلة، “اليهوديّة”، بتعريف العرب، هي واحدة من الديانات السماوية الثلاث. مفهوم واضح ومتصالح مع ذاته ولا يضمر عداوة لأحد.
لكنّ التناقض الفاقع ومكمن الأزمة الوجودية في الهويّة اليهودية يبرزان لدى أبناء المحتلّ. وهذا ما يختم به هاليفي، إذ يقول: “يحتاج اليهود إلى طمأنة العرب إلى أنّ كلمة “إسرائيلي” ليست مرادفة لكلمة “يهودي”. وعلى العرب أن يتقبّلوا حقيقة أنّ إسرائيل لن تتخلّى عن هويّتها والتزاماتها اليهودية”.
ترغيب وترهيب يحيطان بكلمة “يهودي” في معادلة واحدة. أفلا يشي ذلك بأنّ لدى أبناء هذه الدولة معنى وجوديّ هشّ وملتبس جداً لـ”اليهوديّة” ودولتها؟