وضاعةٌ لا تحتَ تحتَها

مدة القراءة 3 د

متجهّم الوجه عابق المُحيّا عاقد الحاجبين، زارنا وزير خارجية فرنسا وهو يستشعر المسؤولية القصوى في حضرة لامبالاة لبنانية فاقعة ومستفزّة. أخذت بلاده تستبدل شيئاً فشيئاً بنبرتها وأدبيّاتها التاريخية الناعمة، التي طالما ميّزت دبلوماسيّتها الأنيقة، أخرى تلامس في شكلها وفي مضامينها منتهى القسوة والإهانة والتأنيب، حتّى كدنا نشعر أنّ قادتها باتوا قاب قوسين أو أدنى من خلع قفّازاتهم وفرملة دبلوماسيّتهم الفائقة التهذيب، والمباشرة في استخدام أقذع عبارات الشتم والتحقير بحقّ طبقة سياسية فقدت آخر قطرة من ماء وجهها.

هو مشهدٌ يبعث بصدق على الدهشة وعلى الحيرة وعلى الجنون، في بلاد باتت مهدّدة بالاختفاء والاندثار والتحلّل. وأمام شعب في طور الضمور والانطفاء. شعبٌ يابس الحلق. شديد الحاجة. يكتنز القلق المزمن والذعر المستدام. ويبحث بلا أمل عن بصيص ضوء في آخر هذا النفق السحيق.

ثمّة مكابرةٌ لا فوق فوقها. ووضاعةٌ لا تحت تحتها. تخيّلوا مثلاً أنّ دولاً بحجم قارّات صارت تناقشنا في تفاصيل الثلث المعطِّل، وتعكف بلا جدوى على عقد المصالحات البينيّة بين متخاصمين على الصغائر، ثمّ تتابع معنا دقائق الأمور واليوميّات المملّة المتعلّقة بتشكيل حكومة تُنقذ ما تبقّى من بلادنا. لكنّنا لا نبالي. يهرع الوزير الفرنسي إلى لبنان ليجدنا منهمكين في لعبة تسجيل النقاط وعضّ الأصابع، ولا أحد يريد أن يُقدّم المصلحة الوطنية على حساب مصالحه الشخصيّة.

هو مشهدٌ يبعث بصدق على الدهشة وعلى الحيرة وعلى الجنون، في بلاد باتت مهدّدة بالاختفاء والاندثار والتحلّل. وأمام شعب في طور الضمور والانطفاء. شعبٌ يابس الحلق. شديد الحاجة. يكتنز القلق المزمن والذعر المستدام. ويبحث بلا أمل عن بصيص ضوء في آخر هذا النفق السحيق

لكن ماذا بعد؟ ماذا بعد أيّها السادة؟ هل من سقف لهذا الجنون؟ هل يجوز أن تتحكّم الغرائز والضغائن وشخصنة الأمور بمصير البلد؟ ألا تقتضي الهرولة نحو جهنّم حدّاً أدنى من المسؤولية الوطنية والأخلاقية؟ هل صارت هرطقات سليم جريصاتي ومنهجيّته العجيبة لتأليف الحكومات أهمّ من الدولة وأهمّ من الناس؟ وهل يصحّ أن يصير مستقبل شخص، أيّ شخص، ومستقبل البلد سِيَّيْن؟ ثمّ هل يكفي أن نقدّم تشكيلة حكومية يتيمة وندير بعدها ظهرنا لكلّ شيء؟ 

إقرأ أيضاً: لودريان ينعى المبادرة الفرنسيّة: ستدفعون الثمن

حين أقدم ثاقب الوطنية والبصيرة فؤاد بطرس، بصفته كبيراً للدبلوماسية اللبنانية الموقّرة وقتذاك، على تعيين منافسه الألمعيّ غسان تويني رئيساً لبعثة لبنان في الأمم المتّحدة، امتعض حافظ الأسد شديد الامتعاض، ثمّ راح يُحرّض ذاك الشهابيّ الهادئ النبيل المترفّع: إنّه خصمك السياسي، فلماذا عيّنته في نيويورك؟ إنّها مصلحة بلدي. قال بطرس. ومعها تسقط الشخصنة والعواطف والمصالح. 

مواضيع ذات صلة

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…

الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

 اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”….

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…