البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني هو كارول جوزف فوجيتيلا. وقد سُمّي جوزف تيمّناً باسم الماريشال “جوزف بلسودسكي” بطل تحرير بولندة من الاحتلال الروسي، الذي كان عام 1920. وكانت ولادته في شقّة صغيرة في بلدة بولونية صغيرة تدعى “وادوايس” Wadwice. أمّا اليوم فإنّ أكثر من مائة أبرشية بولندية تحتفظ بقطرات من دمه تبرّكاً. فهو لم يكن بابا أُضيف إلى عدد الباباوات فحسب، بل كان بالنسبة إلى البولونيين، بصورة خاصة، بطلاً قوميّاً.
في عام 2005، عام وفاته، صدر له كتاب عنوانه “الذاكرة والهويّة” (Memory and Identity). في هذا الكتاب يقول: “إنّ روح بولندة هي التعدّدية والتنوّع وليس الانغلاق والمحدوديّة. جمهورية تضمّ عدّة أمم وعدّة ثقافات وأديان”.
صورة بولندة هذه، التي أحبّها، وجدها في لبنان. ولذلك أحبّه. وذهب في حبّه له أن وصفه بما لم يصف به حتّى بولندة، حين قال إنّه أكثر من وطن، إنّه “رسالة”.
سألني مرّة، وكنت إلى طاولة العشاء في شقّته بالفاتيكان، عن العلاقات بين اللبنانيين.”يُقال إنّ اللبناني شاطر وذكي، وإنّه يعرف كيف يدبّر أموره”. قلت له: “هل تسمح لي أن أروي لك نكتة عن اللبناني؟”. ابتسم وقال: “بكلّ سرور”.
تذكّرت نكتة قرأتها في مجلة “تايم” الأميركية عن البولوني. فرويتها وكأنّها عن اللبناني. فقلت إنّ اللبناني من شدّة تهذيبه يترك لك أن تمرّ قبله أمام الباب الدوّار (Revolving door)، ولكن من شدّة دهائه يفاجئك بأنّه يصل قبلك.
صورة بولندة هذه، التي أحبّها، وجدها في لبنان. ولذلك أحبّه. وذهب في حبّه له أن وصفه بما لم يصف به حتّى بولندة، حين قال إنّه أكثر من وطن، إنّه “رسالة”
ضحك البابا واحمرّ لون وجهه المضيء. ولكن لا أعرف حتّى اليوم إذا كان قد ضحك للنكتة أو للاستعارة.. لقد كان نهم القراءة واسع الثقافة.
كلّ ما أعرفه، وبثقة، أنّه كان يحبّ لبنان حبّه لبولندة. وكان يرى لبنان، بغنى تنوّعه وتعدّده، الوجهَ الذي يحبّ أن يرى وطنه عليه، عندما يتحرّر من القبضة الشيوعيّة.
كان البابا يوحنا بولس الثاني أول بابا غير إيطالي منذ 455 عاماً (والبابا الحالي هو أوّل بابا جزويتيّ منذ أن بدأت البابويّة).
وفي عام انتخابه (1978)، كان أولّ بابا يزور مالطة. يومئذٍ اتّفق أن كنت في العاصمة “فاليتا”، أشارك في مؤتمر دولي. فدعانا رئيس أساقفة العاصمة للسلام على البابا في كاتدرائية “سان جون” وسط الحيّ التاريخي في المدينة.
تولّى رئيس الأساقفة تقديمنا إليه، ذاكراً اسم كلّ واحد منّا واسم بلده. كنّا مجموعة صغيرة من عدّة دول. وكان البابا يصافحنا واحداً تلو الآخر، مكتفياً بابتسامة عريضة. ولكن عندما وصل دوري وسمع اسمي واسم لبنان، غابت الابتسامة. وعلت الجدّيّة وجهه. وخلافاً لما فعله مع الآخرين، استوقفني وخلفي طابور طويل من الذين يتلهّفون للسلام عليه، وقال لي: “مِن لبنان؟.. ماذا تفعلون للبنان؟ (في ذلك الوقت كانت الحرب الداخلية متفجّرة)، ماذا تفعلون لهذا البلد؟..”، وأذكر جيّداً أنّي أجبته: “وماذا تفعلون أنتم يا سيّدي من أجله؟”.
انفجر وجه البابا بالاحمرار، وقال لي: “سترى ماذا سنفعل من أجله. أمّا الآن فالوقت لا يسمح بالحديث. انتظر وسترى”. كان ذلك أوّل لقاء لي مع البابا يوحنا بولس الثاني. وكان أول لقاء لي مع أيّ بابا.
في عام 1993، دعا البابا إلى السينودس من أجل لبنان. ودعا لأوّل مرّة في تاريخ الكنيسة ممثّلين عن المذاهب الإسلامية الثلاثة: السنّة والشيعة والدروز، للاشتراك في السينودس، وليس للحضور فقط. وشاءت الأقدار أن تكلّفني رئاسة الحكومة (الشهيد رفيق الحريري) ودار الفتوى (المفتي الشيخ محمد رشيد قباني)، أن أمثّل المسلمين السنّة.
هناك، في قاعة الاجتماع (في الفاتيكان) تقدّمت من البابا لأذكّره بلقاء مالطة. فكّر مليّاً قبل أن يتذكّر. ثمّ قال لي: “إنّني سعيدٌ أن تكون معنا، لترى ماذا نريد أن نفعل من أجل لبنان. هذا البلد الذي نحبّه ونريده أن يكون مثالاً للخير والمحبة. وأريدكم أنتم المسلمين أن تشاركوا في أعمال اللجان حتى تكون مشاركتكم فعّالة ومثمرة”.
كلّ ما أعرفه، وبثقة، أنّه كان يحبّ لبنان حبّه لبولندة. وكان يرى لبنان، بغنى تنوّعه وتعدّده، الوجهَ الذي يحبّ أن يرى وطنه عليه، عندما يتحرّر من القبضة الشيوعيّة
لماذا استحدث البابا يوحنا بولس الثاني سابقة الدعوة إلى سينودس من أجل دولة؟ ولماذا استحدث سابقة ثانية بدعوة مسلمين إلى السينودس؟ ولماذا جاء بنفسه إلى لبنان (في مثل هذا الوقت من أيّار 1997) لإعلان وثيقة الإرشاد الرسولي؟ ولماذا واصلَ اهتمامه بتنفيذ الوثيقة بكلّ وجوهها اللاهوتية الكاثوليكية، والإيمانية المسيحية المشتركة، والحوارية المسيحية الإسلامية، وخصوصاً دور مسيحيّي لبنان الثقافي في العالم العربي؟
يمكن الإجابة عن كلّ هذه الأسئلة بعبارة واحدة: “حبّه للبنان”. لبنان “الرسالة”، كما أراده أن يكون، وليس لبنان المحاصصة والزبائنية الفاسدة والمفسدة، كما يعمل بعضنا على تشويهه بها. لكن دعوني أعترف أنّنا نحن اللبنانيين قليلاً ما نرتفع في سلوكنا الى مستوى هذه الرسالة. وأذكر أنّي كتبتُ مقالة اعتذرت فيها من البابا لأنّنا “خيّبنا أمله وأسأنا إلى حسن ظنّه فينا”. أمّا هو فلم ييأس من إيمانه بأنّنا سوف ندرك يوماً ما أن لا حياة لنا ولا مستقبل إلّا إذا احترمنا الرسالة وعشنا الصيغة التي أراد وطنه بولندة أن يكون عليها في كتابه “الذاكرة والهوية” (Memory and Identity).
إقرأ أيضاً: البابا “القدّيس” للرئيس الشهيد: أَأْتمنك على مسيحيّي لبنان
فكما كان التنوّع في لبنان سببَ حبّه له، كذلك كانت المعاناة اللبنانية سبب حنانه وعطفه عليه. وكانت تلك مشاعر صادقة، لأنّ المعاناة اللبنانية تتماهى أيضاً مع معاناة بولندة، التي تحوّلت إلى سندويتش التهمه الروس والألمان، كما تحوّل لبنان إلى سندويتش التهمته إسرائيل وسوريا. ولأنّ بولندة خسرت في الحرب ستة ملايين إنسان حتى من دون أن تكون طرفاً في أيّ معسكر، كما خسر لبنان مئات الآلاف من القتلى والجرحى في حروب الآخرين، كلّ الآخرين، في أرضه وعلى أرضه.
مع أن جوزف فوجيتيلا انتقل أساساً الى مدينة كراكوف في عام 1938 لدراسة التمثيل، فإنّه لم يمارس التمثيل من أجل إبداء مشاعره الإنسانية. فأثناء دراسة التمثيل، التحق سرّاً، في عهد الهيمنة الشيوعية، بمعهد للدراسات الدينية. هناك وجد نفسه وتخرّج أسقفاً في عام 1946. ثمّ أصبح رئيس أساقفة مدينة كراكوف في عام 1964.
في الحلقة الثانية غداً: هذا سرّ علاقة البابا القدّيس بالمسلمين