أسيرة في سجون إسرائيل: حكاية فوانيس رمضان

مدة القراءة 5 د

فاض بنا الحنين والشوق إلى لقاء شهر رمضان المبارك، نحن الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي. فبدأنا بإعداد الزينة مما تيسّر لنا من أوراق وألوان وخيوط نسلناها من ملابسنا. هيّأنا ألسنتنا لنضاعف من ذكر الله، وأشبعنا الفؤاد مزيداً من الأمل، ووعدنا العيون بألاّ تدمع، باركنا رمضان في ما بيننا وعقدنا العزم على أن يكون دعاؤنا بالتحرير لنا ولإخوتنا في سجون الاحتلال.

جاء اليوم الأول كأنّه عيد. فرح وابتسامات أغاظت السجّانات والسجّانين، تناثرنا وتعاركنا في ما بيننا على إعداد الطبق الرئيسي، ومنّا مَن كانت تجهّز المقبّلات، ومَن تفتح المعلّبات، ومَن تعدّ الحلويات. حتى حلوة حمامرة التي كانت تهرب دائماً من مهمة التقطيع، فاجأت الجميع هذا اليوم بالمبادرة إلى تقطيع البندورة باستخدام الغطاء المعدني الحاد لعلبة المخلّل، الذي نخبّئه خوفاً من أن تصادره السجّانات.

فاض بنا الحنين والشوق إلى لقاء شهر رمضان المبارك، نحن الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي. فبدأنا بإعداد الزينة مما تيسّر لنا من أوراق وألوان وخيوط نسلناها من ملابسنا

إنّه أشبه بمجال مغناطيسي من الفرح، جذبنا كلّنا لنعدّ إفطار اليوم الأول من شهر رمضان في سنة 2016. فرشنا الأرضية بأغطية النوم، وأحطناها بوسائدنا التي ننام عليها، ووزّعنا الأطباق ممّا صنعت أيادينا وما اجتهدنا في إعداده من القليل القليل الذي توفّره لنا إدارة السجن، وافترشنا جميعاً الأرض في حلقة جمعت الأرواح قبل الأجساد، وعمّ الصمت المكان إلى أن أتى صوت أسير في القسم المجاور لنا يسعدنا بالتكبير ساعة الإفطار، وما إن سمعنا “الله أكبر الله أكبر”، حتى خُنّا الوعد ونكثنا العهد وفاضت الدموع في المآقي، ورجف القلب، فأيقنّا أننا لم نَصُم يومنا عن الطعام والشراب والمعاصي فقط، بل وعن أحضان أمهاتنا وآبائنا وضحكات أطفالنا، فلم يذهب ظمؤنا ولم تبتلّ عروقنا إلاّ من رحمة الله، ودعوناه إلى أن يثبت أجرنا في يومنا هذا.

 طبطبت كل منّا على كتف الأُخرى وهدهدت مشاعرها، “نسرين دموعك مالحة لشو بتوكلي وبِتعَيْطي”، “وإنتي يا حلوة إن ما أكلتي إلّا آكل أكلاتك”، دمعة هنا وضحكة هناك، لكن السجّانات استكثرن علينا هذا، وعزّ عليهن أن نأكل لُقَيماتنا بما يشي بالهناء والوفاق، فباغتنا السجّانون بالقدوم إلى الغرف من أجل التعداد المسائي الأخير، فقفزنا نلبس حجاباتنا ونتسمّر، كل منّا إلى جانب البُرش الخاص بها كما تنصّ تعليماتهم، فلا مناص من التعليمات الدكتاتورية الاحتلالية في السجون الإسرائيلية، ولا تشفع لنا مائدة رمضان من العدّ القميء، بل هي فرصة كالغنيمة لسجّانين حاقدين من أجل إذلالنا والتنغيص علينا في كل لحظة وكل حين، وإظهار عدم احترام لحظاتنا الدينية.

إنه أشبه بمجال مغناطيسي من الفرح، جذبنا كلنا لنعدّ إفطار اليوم الأول من شهر رمضان في سنة 2016. فرشنا الأرضية بأغطية النوم، وأحطناها بوسائدنا التي ننام عليها، ووزعنا الأطباق ممّا صنعت أيادينا وما اجتهدنا في إعداده من القليل القليل الذي توفره لنا إدارة السجن

انتهى التعداد وعدنا لإتمام فطورنا الدامع، وما إن انتهينا حتى بدأت “حالة الطوارئ” داخل الغرف، فعددنا كبير، وكل منّا تريد الوضوء والاستعداد للصلاة؛ وقفنا طابوراً لنتمكن من استخدام المرحاض الوحيد في الغرفة، وكنّا قد وجدنا في عبوة العصير البلاستيكية منفعة، فهي جيدة لتعبئتها بالمياه اللازمة لطهارة البدن، وما إن تخرج أسيرة حتى تدخل أُخرى مكانها، وتنتقل الأولى إلى المغسلة الوحيدة في الغرفة، والتي تسعفنا في كثير من الأوقات، فنحن نستخدمها لغسل الوجه وتنظيف الأسنان صباحاً، وللوضوء قبل كل صلاة، ولتنظيف الأواني، وللحصول على مياه الطبخ والشرب وشطف الأرض وغسل الملابس. 

حان موعد معركة جديدة من معاركنا المحبّبة، فمَن ستؤمّنا في الصلاة، فالسباق لكسب الأجر لا بدّ منه، لكن الأمر لم يدُم طويلاً، نوينا الصلاة بقلوب خاشعة مُسلِمة مُسَلِّمَةٍ أمرها إلى الله وحده لا شريك له، ركعنا له سبحانه العظيم، وسجدنا لربّنا الأعلى، دعوناه أن يفرّج همّنا ويفكّ كربنا ويردّنا إلى أهالينا ردّاً قريباً جميلاً مباركاً فيه.

إقرأ أيضاً: القدس تؤجّل الانتخابات الفلسطينيّة؟

ما إن أتممنا صلاتنا حتى تناثرنا، كل منّا على بُرشها تذرف وحدها ما حقنت من دموع، أو تمسك بكتاب الله عزّ وجلّ وتتلو آياته، أو تتلمّس وجوه أطفالها في الصور القليلة التي حصلت عليها في إحدى الزيارات، أو تطلق خيالها لتنضمّ إلى عائلتها في ساعات ما بعد الإفطار، أو.. أو.. أو..

في السجن فوانيس مضاءة قلوبها، تنتظر حرّيتها لتخرج وتزيّن بيوتها وحاراتها ووطنها، فوانيس لا تنطفئ أبداً، ننتظرها لتصبح أيامنا كلها رمضانية مباركة، نحتاج إليها ليكتمل نور الحرية في قلوبنا، فلن نكون أحراراً ما دامت لنا أسيرة واحدة أو أسير واحد في السجون يعاني رجس الاحتلال الصهيوني.

 

* نجوان عودة: أسيرة محرّرة من مدينة البيرة، وهي لاجئة فلسطينية من قرية المالحة قضاء القدس، والمهجّرة منذ سنة 1948. خرّيجة إدارة أعمال من جامعة إنديانا في بنسلفانيا، ناشطة مجتمعياً، وفي الدفاع عن الأسرى. أمضت في سجون الاحتلال ثمانية عشر شهراً، وكانت اعتُقلت في السابع من أيلول 2015.

 

*المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية

 

مواضيع ذات صلة

ساعات حاسمة… ومصير السّلاح مجهول

في الأيام الماضية ضغط جيش العدوّ الإسرائيلي بجولات من قصف صاروخي عنيف ومكثّف لا مثيل له منذ بدء العدوان الجوّي في 23 أيلول الماضي، وتوّج…

كيف يستعدّ الحزب لليوم التّالي؟

بدأ الحزب إعادة ترتيب أولويّاته تحضيراً لليوم التالي في الحرب بعيداً عن التفاصيل الميدانية الحربية والمفاوضات السياسية الحاصلة لإصدار قرار وقف إطلاق النار.   أشارت…

خشية غربيّة من جولة تصعيد جديدة

إذا لم تُثبت التطوّرات عكس ذلك، فإنّ الأوساط الدبلوماسية الغربية لا ترى في مسوّدة الاتّفاق الذي صاغة الموفد الأميركي آموس هوكستين وقدّمته السفيرة الأميركية لدى…

قيس عبيد: شبحُ مغنيّة الذي حملَ الجنسيّة الإسرائيليّة

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…