بائع الأوهام… في موسكو

مدة القراءة 6 د

في مقابل انسداد الأفق الداخلي أمام أيّ حلّ للأزمة السياسية المتمثّلة في استعصاء تشكيل الحكومة، يتوالى الحراك الخارجي باتجاه لبنان، سواء لجهة استقبال دول خارجية سياسيّين لبنانيّين أو لجهة زيارات مبعوثين دوليّين إلى بيروت للوقوف على طبيعة الأزمة عن قرب وجمع المعطيات الضرورية لاستشراف آفاق المرحلة المقبلة، التي تنذر كل المعطيات السياسية والاقتصادية بقتامتها.

كما في الداخل، كذلك في الخارج، فإنّ بوادر الحلّ شبه معدومة في وقتٍ ما عادت جولات السياسيّين اللبنانيّين وزياراتهم الخارجية سوى منصّة لتقاذف الاتّهامات في ما بينهم، وتحديداً بين الرئيس سعد الحريري والنائب جبران باسيل.

حتّى إنّ الحريري، الذي كان يفترض به أن يستغلّ فرصة زيارته الفاتيكان ليحكي كلاماً يتعلّق بدور لبنان على طريق رسالة السلام، التي أطلقها البابا من العراق في آذار الماضي، فإذا به يهاجم باسيل ورئيس الجمهورية، كما لو أنّه يتحدّث من بيت الوسط.

 باسيل يحاول تسويق فكرة وهمية يستخدمها هو وعمّه الرئيس، ومعهما حزب الله، في الجدل الداخلي، لمحاولة اقتراح حلول ليست في آخر الأمر سوى دليل على عجزهم عن حلّ الأزمة

أمّا عن باسيل فحدّث ولا حرج. فقد أسهب من موسكو بكثرة الكلام. كأنّه يعوّض انقطاعه عن السفر وعن الإعلام الخارجي بعد فرض العقوبات الأميركية عليه في الخريف الماضي. لكن مَن يقرأ تصريحات رئيس التيار الوطني الحر من روسيا، لن يجد فيها جديداً، بل سيكتشف أنّها تكرارٌ لمواقفه الزئبقيّة بين الشرق والغرب، وبين الولايات المتّحدة وروسيا، وبين واشنطن وطهران. ناهيك عن تكراره معزوفة توقه إلى الإصلاح واتّهامه الحريري بعدم الرغبة به، واتّهام الحزب بتغطية الفاسدين لأسباب استراتيجية.

إلّا أنّ ثمّة نقطتين رئيستين في كلام باسيل من موسكو يجدر التوقّف عندهما.

النقطة الأولى متعلّقة بتصريحه عن الانتخابات الرئاسية السورية المقرّرة في 26 أيار المقبل، وتحديداً لجهة استخدامه عبارة “تثبيت الرئيس الأسد”.

فإذا كان باسيل قد ربط بين تثبيت الأسد وبين عودة اللاجئين السوريّين في لبنان إلى بلادهم، فإنّ كلامه هذا بعد لقائه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يتجاوز بالتأكيد هذا الربط. إذ هو يعتمد الأولوية الروسية لإكساب انتخاب الأسد شرعية دولية، حتّى لو كانت موسكو مستعدّة لاستخدام هذا الانتخاب ورقةَ تفاوضٍ في أيّ تسوية مقبلة للأزمة السورية.

والحال فإنّ كلام نائب البترون هو رسالة روسية أكثر منه اجتهاداً شخصيّاً في لحظة يتصلّب الخلاف الغربي الروسي حول الانتخابات السورية المقبلة في ظلّ رفض واشنطن وباريس ولندن المسبق لنتائج هذه الانتخابات ما دامت تستبعد السوريّين في الشتات. حتّى إنّ مسؤولين كباراً في الأمم المتحدة قالوا بإجراء الانتخابات وفق قرارات مجلس الأمن حول سوريا، بينما يصرّ الروس على أنّها لا تتناقض مع القرار 2254، أي أنّ جملة باسيل عن الانتخابات السورية هي كلّ ما أرادته موسكو من زيارته.

وإذ يدعو باسيل موسكو إلى التدخّل في ملف الحكومة من خلال القيام بدور تحفيزيّ لتأليفها، فهو بذلك يضيف تعقيداً إضافياً إلى الأزمة اللبنانية. فكيف يمكن توقّع مساهمة روسية في حلّ الأزمة، بناء على المبادرة الفرنسية، في لحظة مواجهة سياسية قصوى بين موسكو والعواصم الغربية بسبب سوريا وأوكرانيا وتدخّل روسيا في “استحقاقات داخلية للبلدان”، إضافةً إلى قضية المعارِض الروسي ألكسي نافالني. وقد وضعت واشنطن عقوبات جديدة وغير مسبوقة على موسكو تطول قطاعات اقتصادية مهمّة، بينما لوّحت عواصم أوروبية بحذو حذو الولايات المتحدة.

وربط روسيا بين الملفّين اللبناني والسوري منذ اللقاء بين لافروف والحريري في 9 آذار في أبو ظبي، ثمّ خلال زيارة وفد حزب الله موسكو في 13 آذار، بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي لها، من شأنه أن يعقّد الوضع السياسي أكثر كلّما تفاقم الاحتدام بين الروس والغرب حول الملف السوري. إذ إنّ أيّ تدخّل أكبر لروسيا على الساحة اللبنانية سيمكّنها أكثر من الربط بين الملفّين السوري واللبناني، ولا سيّما لجهة تقاطعهما الأساسي بالنظر إلى وجود الحزب في سوريا.

النقطة الثانية الرئيسة في كلام باسيل، التي تدعو إلى الاستغراب، إن لم يكن إلى السخرية، هي طرح باسيل من موسكو “فكرة السوق المشرقية التي تضمّ لبنان وسوريا والعراق والأردن وفلسطين عند إنشاء الدولة”.

 باسيل يحاول تسويق فكرة وهمية يستخدمها هو وعمّه الرئيس، ومعهما حزب الله، في الجدل الداخلي، لمحاولة اقتراح حلول ليست في آخر الأمر سوى دليل على عجزهم عن حلّ الأزمة. لكنّ تسويق نائب البترون لهذه الفكرة الهشّة في موسكو هو دليل إضافي على ارتباك التيار، الذي بات يضفي طابعاً جدّياً على أفكار وهميّة.

يتحدّث رئيس التيار عن دول لم تعلن هي نفسها أيّ رغبة جديّة في إنشاء مثل هذه السوق، ولا سيّما الأردن، ناهيك عن فلسطين التي لا يعدو هذا الكلام بالنسبة إلى شعبها سوى ضرب من ضروب الخيال. يضاف إلى ما سبق أنّ كلّ هذه الدول، التي عدّدها باسيل كجزء من السوق المشرقية، تعاني المشكلات والأزمات نفسها، وهي في حاجة ماسّة إلى العملة الصعبة لتمويل وارداتها الحيويّة. فأيّ سوق هذه التي يريدها باسيل بين دول منهارة، ولا ينقذها من الانهيار سوى الدعم الخارجي؟

حتّى روسيا، التي يدعوها باسيل إلى رعاية هذه السوق المشرقية، حاولت أخيراً، من خلال جولة وزير خارجيّتها في المنطقة، وتحديداً على دول الخليج العربي، البحث عن إمكانات إيجاد أرضيّة سياسية عربية تساعد في ترتيب أوضاع جديدة في سوريا تنقذ موسكو من المراوحة القاتلة هناك بين تحقيق إنجازات عسكرية والعجز في الوقت نفسه عن تثمير هذه الإنجازات في السياسة. ولا سيّما أنّ موسكو عاجزة تماماً عن مباشرة إعادة الإعمار في سوريا من دون دعم عربي ودولي. وهي تفضّل هؤلاء على الصين لأنّ الاتفاق معهم في آخر الأمر على خريطة النفوذ في المنطقة ممكنٌ جداً، بينما توسّع النفوذ الصيني في المنطقة سيأكل حكماً من الصحن الروسي.

لكنّ باسيل لا يأخذ كلّ ذلك في الاعتبار مأخوذاً بالحماسة لإظهار رؤيته الاستراتيجية حتّى لو كانت رؤية سوريالية. ومع ذلك فهي رؤية تعبّر عن هدف سياسي لدى رئيس التيار يتمثّل في مماهاته بين السوق المشرقية وبين مساحة نفوذ إيران في المنطقة، من العراق إلى سوريا فلبنان.

إقرأ أيضاً: باسيل في موسكو: حضنٌ باردٌ.. بلا نتائج

فالسوق المشرقية هي، بالدرجة الأولى، تعبير اقتصادي ذو مدلولات سياسية. وهذا سبب إضافي لكي لا تتحمّس لها روسيا، التي لن تقبل بتوسّع النفوذ الإيراني أكثر في المنطقة، بل إنّ تقليصه إلى حدود معيّنة سيكون أحد أهدافها، عاجلاً أم آجلاً، ولا سيّما في سوريا.

وفي المحصّلة فإنّ الزيارات الخارجية للمسؤولين والسياسيين اللبنانيين تؤكّد أنّ الانهيار الاقتصادي في لبنان يتزامن مع تراجع كبير في الكفاية السياسيّة لهؤلاء المسؤولين والسياسيين. وأنّ جولاتهم ليست سوى محاولة للبقاء على قيد الحياة، في الداخل والخارج… لا أكثر.

مواضيع ذات صلة

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…