مع نكبة الهند بالموجة الحالية من اجتياح فيروس كورونا في إحدى متحوّراته الجديدة، تبرز الحاجة إلى التعرّف على أسباب هذا الانتشار، وجذوره في العناصر الأساسية من تركيبة الهند الاجتماعية والسياسية كتوطئة لا بدّ منها لفهم ظاهرة اليمين القومي الديني الذي يحكم الهند بقيادة رئيس الوزراء نارندره مودي، الذي لا يبدو من السهل إزاحته رغم كارثية ما تسببت به حكومته من سوء تدبير حيال جائحة كورونا.
الهند من البلدان القليلة في عالم اليوم التي يرِد في دستورها تعريفٌ لها على أنّها دولة “اشتراكية” وتلتزم في الوقت عينه بالتعدّدية السياسية، والنظام البرلماني، وتداول السلطة، والفصل بين السلطات، ومساحة غير شكلية أبداً من الحريات العامة والخاصة. مقارنة بجارتها الشمالية الصين، والغربية باكستان، والشرقية ميانمار، لا تزال الهند إلى الآن، على علاقة أقرب بشكل نوعيّ من مفهوم الديموقراطية.
هذا على الرغم من استفحال التشوّهات اللاحقة بالديموقراطية الهندية، مع تردّي أحوال حقوق الإنسان، وتدهور أوضاع الأقلّيات الدينية، وازدياد مطواعية القضاء للسلطة التنفيذية، وابتعاد النموذج ككلّ عن مبدأ احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي، مع تضخّم عديد المنظّمات القومية الدينية ذات الصبغة القتالية، وتزايد أعمالها العنيفة. وهي منظّمات شبه عسكرية من حيث شكل انتظامها، وتتبع فروعاً مختلفة من فكر الهندوتفا (الهند للهندوس)، مثل “منظمة المتطوّعين القومية” (راشتريا سوايامسيفاك سانغ) التي ليس الحزب الحاكم (بهاراتيا جاناتا) سوى الذراع السياسية لها، و”الباجرانغ دال”، و”اليوفا فاهيني”، و”الشيف سينا” (جيش شيفاجي، الفصيل الناشط في مومباي وولاية مهاراشترا). وفي أقصى المشهد جماعة “ابهيناف بهارات”. وفي وقت تتركّز هجمات التشكيلات الأخرى ضدّ المسلمين والأقلّيات الدينية الأخرى، وضد الشيوعيّين، فللتنظيم الأخير باعٌ ضد المتطرّفين الهندوس أيضا،ً الأكثر اعتدالاً منه، بدعوى أنّهم مُفرّطون.
الهند من البلدان القليلة في عالم اليوم التي يرِد في دستورها تعريفٌ لها على أنّها دولة “اشتراكية” وتلتزم في الوقت عينه بالتعدّدية السياسية، والنظام البرلماني، وتداول السلطة، والفصل بين السلطات، ومساحة غير شكلية أبداً من الحريات العامة والخاصة
الاشتراكية المنسيّة من زمن إنديرا
أمّا “الاشتراكية”، فلعلّها منسيّة في الدستور الهندي، مثل شارة “المطرقة والمنجل” في رمز الخطوط الجوية الروسية “آيروفلوت”، إلى يومنا هذا. والاشتراكية مصطلح نادر الورود في دساتير بلدان تعتمد الديموقراطية التمثيليّة واقتصاد السوق اليوم. فوحدها البرتغال لا يزال يرِد هذا المصطلح في دستورها على مستوى كلّ أوروبا. لكنّ الأمر مألوف أكثر في جنوب آسيا، أي شبه القارة الهندية، حيث تأتي كلٌّ من دساتير بنغلاديش وسريلانكا والنيبال على ذكر الاشتراكية بالاسم، ومن دون التقيّد بتحديد لها، ولأسباب وتواريخ مختلفة.
لم تكن “الاشتراكية” واردة في الدستور الهندي أيّام أوّل رئيس للوزراء بعد الاستقلال جواهر لال نهرو، لا حين أُمّمت الخطوط الجوية ولا حين أُمّمت المناجم والصلب والتعدين والتأمين في الخمسينيّات، ولا حين أَمّمت ابنته إنديرا عام 1969 أكبر المصارف.
“الاشتراكية” لم يجرِ إدخالها على الدستور الهندي إلا عام 1976، أي في سنوات انقلاب رئيسة الوزراء إنديرا غاندي على المؤسّسات، وتجميدها الحياة السياسية، وإعلانها حال الطوارئ، والحكم بالمراسيم لأحد وعشرين شهراً (1975 – 1977). في سنوات هذه “الديكتاتورية المؤقّتة” وجدت إنديرا أنّ الأنسب لها إدخال تعديل على مقدّمة الدستور، بحيث تصبح الجمهورية “سيدة اشتراكية علمانية ديموقراطية”. والمفارقة التي يرصدها الكتاب الصادر حديثاً للفرنسي كريستوف جافرولو والهندي براتيناف آنيل عن زمن “ديكتاتورية الهند الأولى: 1975 – 1977″، أنّ إنديرا أسندت ديكتاتوريّتها المؤقّتة هذه إلى تقاطع غريب عجيب مع الشيوعيّين المتصادمين مع اليمين القومي الديني، ومع الطبقة الوسطى الخائفة من الفوضى، ومع الصناعيّين ورجال الأعمال الذين ضاقوا ذرعاً بكثرة الإضرابات يومئذ. وفي مقابلة له قبل أيّام، قارن جافرولو بين إنديرا غاندي ورئيس الوزراء الهندي الحالي نارندره مودي، فذكر الهالة الكاريزمية التي أحاطت بكلٍّ منهما، وميّز بين اختطاف إنديرا للديموقراطية لعامين، ثم العودة إلى الاحتكام إليها بعد زوال ما اعتبرته يوماً خطراً على الدولة ككلّ، على الرغم من علمها أنّ صناديق الاقتراع ستعاقبها، في حين لم ينقلب مودي بهذا الشكل النافر على الديموقراطية، إذ كان يقود عملية قضمها من الداخل بشكل متواصل. أمّا بالنسبة للمؤرّخ الهندي اليساريّ الليبرالي رمشندره غوها، كاتب أوسع وأهمّ سيرة حتى الآن عن المهاتما غاندي، بالإضافة إلى كتابه المرجعيّ عن “الهند بعد غاندي”، والذي يجمع في كتاباته بين تقديره العالي لروحيّة وسياسات جواهر لال نهرو، وبين ملامته القاسية لإنديرا بنت نهرو، فإنه صعّد من نقده للحكم الحالي في الهند، مستهجناً كيف استشرت مناخات “عبادة شخصية” مودي في اليمين الهندي، بالتزامن مع جائحة كورونا، وكيف وصلت الهند بمعيّة “عبادة مودي” هذه، وفي ظل الموجة الثانية من الجائحة، الى ما يصنّفه غوها “أخطر أزمة في تاريخ البلد منذ 1947″، أي منذ الاستقلال، وانفصال الهند وباكستان.
سرديّة اليمين في مواجهة حكم السلالة المتعجرفة
بيد أنّ جماعة مودي لا تزال تستذكر سنوات انقلاب نديرا على الديموقراطية، وكلّما اتُّهم مودي و”ساعده الأيمن” وزير الداخلية الفظّ آميت شاه بالتسبّب بتخريب الديموقراطية الهندية، ذكّروا بفعلة إنديرا تلك، وكيف أنّهم على عكسها تماماً يلتزمون روزنامة الانتخابات ونتائجها. ويميل اليمين القومي الديني في الهند، عموماً، إلى المزاوجة بين تهمتيْن في دعايته ضد الحزب المنافس، حزب المؤتمر الذي قاد عملية استقلال الهند وهيمن عليها في نصف القرن التالي على الاستقلال. من جهة، يوجِّه الاتّهام إلى حزب المؤتمر بأنّه حزب السلالة، الداينستي (Dynasty)، تلك السلالة الممتدّة من موتيلال إلى ابنه جواهر لال نهرو، فابنته إنديرا، فابنيها سانجاي وراجيف، فأرملة راجيف الإيطالية صونيا، ثم أولاده راهول وبريانكا. هذا في مقابل يمين إحيائي هندوسي يفسح في المجال لأبناء عائلات متواضعة وفي قاعدة هرم الطبقات الدينية التراتبية الهندوسية، مثل مودي نفسه، الحائر تصنيفه في نظام الكاست (الطبقات المغلقة الوراثية) بين الثالثة والرابعة، والذي نشأ كـ”بائع شاي”، من الوصول إلى القمّة. في حين أنّ سلالة نهرو – غاندي، المتغرّبة عن الدين الشعبي والعادات والتقاليد، تضمر استمراراً للفوقيّة الضمنيّة، إذا ما اعتبرنا نظام الكاست هذا، لكونها عائلة من طبقة الكهنة، البراهمة، في تحدّرها الأساسي. هذا هو الاتّهام الأوّل لحزب المؤتمر. إنّه حكم السلالة المتغرّبة عن شعبها أباً عن جدّ. أمّا الاتهام الثاني فهو أنّ حكم السلالة المتعجرفة هذا يستند إلى تثبيت أركانه على سيطرة الماركسيّين على الجامعات والصحافة والثقافة، بحيث إنّ تفكيك سيطرة حكم السلالة، التي تسيطر على حزب متوغّل في جهاز الدولة كحزب المؤتمر، يتداخل مع محاربة الهيمنة “الماركسية الثقافية”، التي تُرمى بها دائرة من المثقّفين أوسع بكثير من الذين يحيلون إلى مصادر فكرية ماركسية في أعمالهم أو مواقفهم. فكلّ من يتصدّى لاعتبار الهند وطن الهندوس، بالدرجة الأولى، هو في اعتبار جماعة “الهندوتفا” مشايعٌ للعدميّة الماركسية المتواطئة مع حكم السلالة المتغرّبة عن شعبها والمتعجرفة!
لم تكن “الاشتراكية” واردة في الدستور الهندي أيّام أوّل رئيس للوزراء بعد الاستقلال جواهر لال نهرو، لا حين أُمّمت الخطوط الجوية ولا حين أُمّمت المناجم والصلب والتعدين والتأمين في الخمسينيّات، ولا حين أَمّمت ابنته إنديرا عام 1969 أكبر المصارف
العدالة الاجتماعيّة بالمفهوم الهنديّ
لكنّ ذلك لم يستدعِ حتّى الآن عزماً من اليمين القومي الديني لشطب تعريف الاشتراكية من الدستور، وإن ارتفعت المطالبة بين الفينة والفينة، أسوةً بالمطالبة بإلغاء صفة العلمانية. واليمين القومي لا يعرف أصلاً ماذا يريد في موضوع العلمانية، فهو مرّةً ضدها، ومرّةً يتذكّر أنّ هذه العلمانية الهندية تستثني المسلمين من قانون الأحوال الشخصية المدني، فيطالب بتوسعة العلمانيّة وإلغاء هذا الاستثناء. أمّا الاشتراكية في وقت سابق، والعدالة الاجتماعية من بعد ذلك، فهي تعابير لم يكن صعباً على خطاب اليمين المحافظ في الهند تبنّيها، وإن اتّجه هذا اليمين أكثر فأكثر منذ ثلاثة عقود إلى المزاوجة أكثر بين أيديولوجيّته الاحيائيّة وبين الحماسة لتحرير الأسواق وللوصفات النيوليبرالية بشكل عامّ، علماً أنّ حزب المؤتمر هو السبّاق إلى ذلك هنا أيضاً. فهو من قاد التأميمات، ثمّ هو من بادر إلى الخصخصات، خصوصاً مع اشتداد أزمة النموذج الاقتصادي الموجّه الذي يعتمد التخطيط، وأزمة ميزان المدفوعات، واشتداد الركود في الثمانينيّات.
وبعد ثلاثين عاماً على انطلاقة عجلة الخصخصة، لا يزال القطاع العامّ في الهند ضخماً، بما في ذلك القطاع العام الصناعي. بل إنّ نظرة الرأي العام إلى القطاع العام الإنتاجي تكاد تكون أكثر إيجابيّة من النظرة الى القطاع العام الخدماتي، الذي يجري التركيز على تدهور أحواله، كمثل ما يحصل عند المقارنة بين المستشفيات العامة والخاصة، مع اختلاف النظرة من مدينة إلى أخرى، ومن ولاية إلى أخرى. ويرتبط جزء أساسي من النقاش حول القطاع العام في الهند بتصنيف الشركات رابحةً أو خاسرة. لأجل هذا، من التعسّف الافتراض أنّ الهند قامت عام 1991، بشكل كلّيّ وسحريّ، بهجران محوريّة القطاع العام فيها وتبنّي النيوليبرالية بشكل كامل وناجز ولا تفصيل فيها.
إقرأ أيضاً: لبنان والمتحوّر الهنديّ: أوقفوا الرحلات العراقيّة
يطغى على النقاش نفسه تقديران إجماليّان بأنّ الفوارق في الثروة ارتفعت في هذه العقود الماضية، وبأنّ الفقر المدقع انحسر نسبياً في الوقت نفسه. وليس من يشكّ في التقدير الأول، ولكنّ البعض يشكّ في الثاني على الدوام، أو على الأقلّ يُضعِّف من صدقيّته.
بيد أنّ العدالة الاجتماعية دخلت الهند، منذ قوانين لجنة ماندال أواخر السبعينيّات، في مفهوم جديد: التمييز الإيجابي لإنصاف أبناء الطبقات المحرومة بحسب تصنيفات التراتبية الهندوسية (نظام الكاست)، والتصنيفات الكولونيالية البريطانية (الفئات المحدّدة بأنّها “قبائل” مثلاً). وعلى الرغم من أنّ الدستور يحظر اضطهاد أيّ مواطن على أساس نظام الكاست، فإنّ التمييز الإيجابي جرى في المقابل اعتماده مع لجنة ماندال هذه، ويحجز نسباً لأبناء الطبقات الوراثية المحرومة على الصعد التربوية والاقتصادية والتموينية والوظيفية. وهذا ما أدّى في الوقت نفسه إلى توتّرات لا تنتهي. إذ برز السؤال: أيّ الفئات يمكنها الاستفادة من التمييز الإيجابي، وأيّ الفئات لا يمكنها ذلك؟ وكلّ فئة ظلمها التمييز الإيجابي في مرحلة يمكنها أن تطالب بإعادة إنصافها في مرحلة أخرى. وإذا كان التقسيم الرباعي التراتبي للطبقات الوراثية، التي يولد فيها الفرد ولا يستطيع تبديلها ولا الزواج من خارجها تراثياً، له سطوة كبيرة بين الهندوس (وله ما يعادله لدى أتباع الديانات الأخرى، ولو بشكل مخفّف)، فإنّ كلّ واحدة من هذه الطبقات (البراهمة، أو طبقة الكهنة، ثم الكشاتريا، أي طبقة الأمراء، ثم الفايشيا (الحرفيّون والتجّار)، ثم الشودره (الخدم والعمّال اليدويّون)، ثم من هم بلا طبقة (الداليت أو المنبوذون)، تنقسم بدورها إلى مئات الفروع أو الجماعات الفرعية (الجاتي) التي تحاول أحياناً إعادة تركيب سرديّتها عن ماضيها وأصلها وفصلها للصعود في السلّم، أو تنتبه أنّه ليس من مصلحتها الصعود كثيراً كيلا يؤدّي إلى خسارة حظوظها في التمييز الإيجابي، فتنزل.
في الحلقة الثانية غداً: كيف ساهمت السياسة والأديان.. في نشر الكورونا
وسام سعادة: أستاذ محاضر في معهد العلوم السياسية بجامعة القديس يوسف اعتاد قبل جائحة كورونا وعلى مدى 12 عاماً بأن يمضي فترات طويلة سنوياً في ولايات مختلفة من الهند والنيبال حيث اعتنى بالإضافة إلى الاستكشاف العام والتفصيلي لجوانب مختلفة من الحياة والثقافة والمُعاش، بأن يدرس ويتابع الحركات الإحيائية الدينية، والمصادر الفكرية لليمين القومي الديني، وبخاصة كل ما يندرج تحت يافطة “الهندوتفا”.