تعقيباً على السماك: هكذا صعد غولن.. والمودودي لم يقسّم الهند

مدة القراءة 7 د

يطرح مقال الأستاذ محمّد السمّاك في “أساس” عن حكاية أردوغان وغولن: “حروب الإخوة الأعداء“، نقطة مفصلية في تاريخ الجماعات الإسلامية في تركيا في مواجهة النظام العلماني الأتاتوركي. وكما خرج أردوغان من عباءة مؤسس الحركة الإسلامية في تركيا، المهندس نجم الدين أربكان (توفي 2011)، بحزب جديد هو حزب العدالة والتنمية، لا يتصادم مباشرة مع النظام العلماني، ويحمل في الوقت نفسه شعارات الإسلام السياسي في تركيا وخارجها؛ كذلك يُعتبر فتح الله غولن، زعيم جماعة خدمت Hizmet، امتداداً معنوياً لا عضوياً للجماعة الصوفية المتجدّدة التي ينتمي إليها بديع الزمان سعيد النورسي (توفي 1960)، فـ(“رسائل النور“) للنورسي كانت تُقرأ بانتظام في حلقات جماعة غولن.

وإذا كان النورسي قد عكف على بناء المعاني الإيمانية في الفرد بعيداً من السياسة، فإن غولن رسم خطة منهجية للنهوض التربوي في تركيا، من خلال بناء المدارس والجامعات، وصولاً إلى تأسيس الشركات التجارية والصناعية والإعلامية. وقبيل انقلاب 2016، كان لجماعة غولن أكثر من 3 آلاف مدرسة في تركيا وحدها، وعدد من الوسائل الإعلامية المكتوبة والقنوات الفضائية، واتحاد رجال الأعمال الذي كان يضمّ أكثر من خمسين ألف شركة. لذلك أطلقت أنقرة على الجماعة لقب “الكيان الموازي”. 

كما خرج أردوغان من عباءة مؤسس الحركة الإسلامية في تركيا، المهندس نجم الدين أربكان، بحزب جديد هو حزب العدالة والتنمية، لا يتصادم مباشرة مع النظام العلماني؛ كذلك يُعتبر فتح الله غولن، زعيم جماعة خدمت Hizmet، امتداداً معنوياً لا عضوياً للجماعة الصوفية المتجدّدة

وبالنظر إلى جريان الوقائع منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، لم يكن صعود الإسلام السياسي في تركيا خاصة، وانتشار نفوذ التيار الديني عامة، ومنه جماعة غولن، مرتبطين برفض الاتحاد الأوروبي انضمام تركيا إليه، كما يقول المقال. فلسياقات هذه الحالة جذورٌ فكرية وأيديولوجية في جوهرها، إضافةً إلى المؤثّرات الاجتماعية والسياسية.

منذ عام 1959 بدأت مساعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وقدّمت طلباً رسمياً للانضمام إليه عام 1987، واعتُبرت تركيا مؤهّلة للانضمام إليه عام 1997، ولم تبدأ المفاوضات إلا عام 2005، وتوقّفت المفاوضات عام 2016، بسبب اتّهام السلطة التركية بانتهاك حقوق الإنسان عقب محاولة الانقلاب، التي كان المتّهم الرئيسي فيها هو فتح الله غولن!

أمّا حملة الاجتثاث الشامل للجماعة بعد محاولة الانقلاب، فكانت خطة جاهزة لدى أردوغان قبل سنوات عدة. وهي لضخامتها، إذ تستهدف مئات الآلاف من المعلّمين والموظفين في الأجهزة القضائية والعسكرية والأمنية، ولأنّ البيئة واحدة بين أنصار أردوغان وأنصار غولن، فقد عارضها بقوّة قيادات حزب العدالة والتنمية، لكنّ الانقلاب سمح بما كان صعباً تنفيذه من قبل.

 

المودودي وقيام باكستان

وفي سياق تاريخي آخر، كمدخل لتحليل الحالة الحركية في تركيا، يذكر مقال السمّاك، أنّ أبا الأعلى المودودي (توفي 1979)، هو صاحب نظرية “الإسلام دين ودولة”، ومنه انتقلت إلى سيّد قطب (أُعدم عام 1966) في مصر؛ ومن هناك وصلت الفكرة إلى تركيا، فانتشرت لدى الحركات الإسلامية. ومن الشائع أنّ هذا الشعار هو علامة مميّزة للإسلام السياسي، وبالأخص لجماعة الإخوان المسلمين التي أسّسها حسن البنّا (اغتيل عام 1949)، في مصر عام 1928. وجاء في “رسالة التعاليم” له: “الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمّة”. وهذا قبل أن يخوض المودودي في السياسة، وكان لا يزال كاتباً صحافياً.

لكن يُقال، في مجال التأثّر والتأثير بين المودودي وسيّد قطب، إنّ مقولة الحاكمية الإلهية، المنسوبة إلى المودودي، والتي نظّر لها في كتابه “المصطلحات الأربعة في القرآن”، انتقلت إلى قطب في كتابه “معالم في الطريق“، الذي طُبع أوّل مرة عام 1964، في حين أنّ كتاب المودودي نُشر بالأوردية عام 1941، وتُرجم إلى العربيّة عام 1955.

حملة الاجتثاث الشامل للجماعة بعد محاولة الانقلاب، كانت خطة جاهزة لدى أردوغان قبل سنوات عدة

ثمّ نصل إلى قضية بالغة الأهمية، وهي علاقة المودودي بتقسيم الهند، التي مرّ عليها المقال على نحوٍ سريع وإيحائيّ في الوقت نفسه، وكأنّ الفكر السياسي للمودودي هو الأساس الإيديولوجي لتأسيس باكستان Pakistan (الأرض الطاهرة)، في حين أنّ المودودي كان معارضاً للمؤتمر الوطني بقيادة المهاتما غاندي (اغتيل عام 1948) ولجمعية علماء الهند المتحالفة معه، لأنّ المؤتمر يدعو إلى تكوين قومية هندية، واعتماد الديموقراطية العددية التي ستؤول إلى ذوبان الأقلية المسلمة في الأكثرية الهندوسية. وكان معارضاً أيضاً للرابطة الإسلامية التي تدرّجت في مواقفها من المطالبة بمشاركة المسلمين في السلطة من خلال الدوائر الانتخابية المنفصلة، والمحاصصة الطائفية في الإدارة، إلى المطالبة بتـأسيس فدرالية أو كونفدرالية تُعطى فيها الولايات ذات الغالبية المسلمة استقلالاً ذاتيّاً، حتى بعد صدور قرار لاهور عن مؤتمر الرابطة عام 1940، فإلى العمل على بناء دولة باكستان المستقلة عن الهند، بعد فشل تأليف حكومة وحدة وطنية بين المؤتمر الوطني والرابطة الإسلامية، برعاية الإنكليز، أواخر عام 1946، أي قبل أشهر من الانفصال.

لم يكن المودودي وحده من تحدّث عن الحاكمية الإلهية (sovereignty of god) أو ما شابهها في شبه القارة الهندية. أبو الكلام آزاد (توفي عام 1958)، عندما كان نصيراً لحركة الخلافة في الهند بين عامي 1919 و1924، تأييداً للسلطان العثماني في مواجهة الحلفاء الغربيين، طرح فكرة الحكومة الإلهية (hukumat-I ilahiyah) قبل أن يتبنّى الفكر القومي، وينضمّ إلى المؤتمر الوطني، ويصبح رئيساً له عام 1939. بالمقابل، كان غلام أحمد برويز )توفي عام 1985)، وهو مؤسّس جماعة طلوع الإسلام أو انبعاث الإسلام (Tolu-e-Islam)، وأحد أشدّ المناصرين لفكرة باكستان ولزعيم الرابطة الإسلامية محمد علي جناح (توفي 1948)، يعتبر أنّ إقامة باكستان هي الخطوة الأولى نحو تأسيس الحكومة الإلهية، أي تأسيس الدولة الإسلامية. وكان برويز محسوباً على التيار، الذي ينكر الحديث النبوي ويعتمد على القرآن وحسب، والذي عُرف أعضاؤه بالقرآنيّين.

أمّا بذرة فكرة الانفصال، فتبدأ من سيّد أحمد خان (توفي 1898) مؤسّس جامعة عليكره (Aligarh)، الذي كان يرى ضرورة حماية الهويّة الإسلامية وموالاة الاحتلال البريطاني في وجه الأكثرية الهندوسية، ثمّ الشاعر والفيلسوف محمد إقبال (توفي 1938)، الذي كان متأثّراً أيضاً بالأفكار الغربية، وله أفكاره التجديدية في الإسلام مثلما جاء في كتابه “تجديد الفكر الديني في الإسلام“. وجاء المحامي محمد علي جناح ليتولّى هذه المهمّة، وهو من أصول شيعية إسماعيلية، لكنّه كان علمانياً ومعجباً بتجربة أتاتورك في تركيا، مثله في ذلك مثل محمد إقبال.

إقرأ أيضاً: حكاية أردوغان وغولن: “حروب الأخوة الأعداء”

والذين عارضوا انقسام الهند هم العلماء المسلمون التقليديون، وكانوا يتمثّلون بجمعية علماء الهند خاصة. وحجّتهم الرئيسة في التحالف مع الهندوس ضد البريطانيين، بعكس ما فعله جناح ورفاقه، أنّ الأولوية هي لتحرير الهند أوّلاً، وأنّ الانفصال ضرره أعظم بكثير من فائدته.

كان المودودي ضائعاً بين الفريقين، فهو انتقدهما معاً، أي من تحالف مع الهندوس، ومن راهن على الإنكليز. وكان يرى أنّ الحلّ هو بقاء الهند موحّدة، أو أن ينشأ اتحاد بين ولايات مستقلة ذاتياً، وأنّ الوسيلة الفضلى لحماية الإسلام في الهند هي الانغماس في حركة دعوية منظمة وقوية. بالطبع، كان طرحه مثالياً، وضاع في حمأة الاقتتال الطائفي أثناء تبادل السكان القسري بين المسلمين والهندوس، وسقط ملايين الضحايا في الطريق، وبقي ملايين المسلمين في الهند من دون راعٍ أو حماية.     

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…