البلد في الحضيض. العملة الوطنية لم تعُد تساوي شيئاً، وباتت مجرد قروش. البطالة تحلّق في أرقامها المأساوية، والفقر يدقّ أبواب 75% من الشعب اللبناني. أرقام مخيفة، مهولة، تلهب ثورات وانتفاضات اجتماعية وبراكين شعبية. فيما المسؤولون يتلهّون بخلافات وجدالات بيزنطية، ويتركون اللبنانيين على رصيف الانتظارات والرهانات الخارجية، التي قد تطول… من دون أن يجرؤ أيٌّ منهم على اتخاذ أيّ قرار، وهم المقتنعون أنّ كل القرارات المنتظرة هي كرات نار ستحرق كلَّ من يفكّر في حملها. وقرار ترشيد الدعم، أو بالأحرى، وقفه، نموذج فاقع لهذه المعموديّة.
كان آخرُ تطوّرات رفع الدعم مبادرةَ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نحو وزير المال في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني. فقد وجّه كتاباً إليه دعاه إل أن “تقوم الحكومة سريعاً، بوضع تصوّر واضح لسياسة الدعم للحدّ من الهدر الحاصل…”، وختمه بالقول: “نظراً إلى خطورة الوضع والتأثيرات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تنتج عن التأخّر في بتّ ما تقدّم، نتمنى عليكم إعطاءنا أجوبة واضحة وصريحة، بالسرعة الممكنة”.
البلد في الحضيض. العملة الوطنية لم تعُد تساوي شيئاً، وباتت مجرد قروش. البطالة تحلّق في أرقامها المأساوية، والفقر يدقّ أبواب 75% من الشعب اللبناني
حوّل وزير المال الكتاب إلى رئاسة الحكومة، باعتبارها المخوّلة أن تقرّر في مسائل كهذه. ويعلم الجميع أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب لن يبادر إلى تحمّل تبعات خيار غير شعبيّ، يعتبر أنّه ليس هو المسؤول عنه، لأنّه نتج عن انهيار مالي مسبّباته تعود إلى عشرات السنين السابقة على ولايته. لذا حاولت الحكومة رمي الكرة في ملعب مجلس النواب طالبةً منه تشريعاً يسمح بانعقادها في ظلّ تصريف الأعمال. فتملّص المجلس بدوره من هذه المسؤولية ورفض التحرّك.
المشهد السوداوي واضح في معالمه. وتكتفي الطبقة السياسية في عدّ أيامه ولياليه، ويتفرّج أعضاؤها على بعضهم البعض. فيما العدّ العكسي لآخر أيام الدعم بدأ منذ فترة. وها هو مصرف لبنان يحذّر من بلوغ القعر، من دون أن تبادر إلى فعل أيّ شيء السلطة التنفيذية المشلولة، بفعل واقعها الدستوري، أو السلطة التشريعية، التي تتحجّج بأنّها ليست الذراع التنفيذية.
فعلياً، ثمة تقاذف غريب للمسؤوليات بين الحكومة المستقيلة وبين مجلس النواب ومصرف لبنان. لا يجرؤ أيٌّ منهما على الإمساك بكرة اللهب لمواجهة الرأي العام بالحقيقة المرّة: الدعم صار في أيّامه الأخيرة، ولا خيارات بديلة متاحة إلى الآن.
وفق المتابعين، لا يزال قرض البنك الدولي حبراً على ورق، لأنّ نسخة الاتفاق، التي أقرّها مجلس النواب، ليست النسخة نفسها التي وقّعت عليها الحكومة مع البنك الدولي بداية السنة الحالية. بل هي خضعت لتعديلات في مجلس النواب، ثمّ أُعيد إرسال النسخة المعدّلة إلى الإدارة المركزية في البنك الدولي في واشنطن، للحصول على موافقتها الجديدة. وإذا ما سجّل البنك الدولي ملاحظات إضافية، فهذا يستوجب إعادة إقرار النسخة الجديدة في مجلس النواب. وهذا البرنامج يستهدف حوالي 160 ألف عائلة، ويرمي إلى المحافظة على الأمن الغذائي للأسر الأكثر فقراً في لبنان.
ثمة تقاذف غريب للمسؤوليات بين الحكومة المستقيلة وبين مجلس النواب ومصرف لبنان. لا يجرؤ أيٌّ منهما على الإمساك بكرة اللهب لمواجهة الرأي العام بالحقيقة المرّة: الدعم صار في أيّامه الأخيرة، ولا خيارات بديلة متاحة إلى الآن
أمّا البرنامج، الذي كانت تعدّه الحكومة لتعويض رفع الدعم، فهو يستهدف حوالي 750 ألف عائلة، لأنّ الإحصاءات المتوافرة في وزارة الشؤون الاجتماعية تفيد أنّ 75% من الشعب اللبناني لن يكفيه مدخوله في حال رفع الدعم. ويُفترض أن تكون البطاقة التمويلية هي الآلية التي سيُدفع من خلالها لهذه العائلات.
إقرأ أيضاً: ياسين جابر لـ”أساس”: الدعم خطيئة اقتصادية.. ومصرف لبنان موّل الفساد
حتّى الآن، يقول المطّلعون على موقف رئيس الحكومة إنّ الأخير لن يقرّ رفع الدعم ما لم يُصَر إلى إقرار البطاقة التمويلية، التي يعود لمجلس النواب رصد الاعتماد اللازم لها. ولكن في المقابل سيُصار إلى وضع سيناريو واحد لترشيد الدعم لإرساله من جديد إلى مجلس النواب لإقراره.
ولأنّ مجلس النواب والحكومة يتقاذفان المسؤولية، يُنتظر أن يواجه مصرف لبنان وحده هذه الكأس المرّة من خلال إجراءات أحادية الجانب تؤدي إلى ترشيد الدعم تدريجياً، وتبدأ بوقف دعم السلّة الغذائية، وتطول جزءاً من المشتقات النفطية والأدوية. أمّا الطحين فقد يكون آخر السلع المدعومة لأنّه الأقلّ كلفة.