مبادرة البطريرك: أوّلاً ودائماً… لماذا؟

مدة القراءة 7 د

في الأيام الأخيرة، وقد اجتمعت لدى كل اللبنانيين الهموم مع اقتراب 13 نيسان (1975) إلى ذكريات وأهوال الحرب الأهليّة، تعبتُ، كما تعب سائر المتابعين، من الأخبار والخبريّات والروايات والأساطير عن أسباب عدم تشكيل الحكومة العتيدة.

يوجد شبهُ إجماعٍ، بالطبع، على أنّ الصخرة المعيقة لكلّ تقدّمٍ في أيّ مجال وسط الانهيار الشامل تتمثّل في رئيس الجمهورية وصهره الخالد. وقد جاءت كلمة الرئيس قبل أيّام قليلة عن عجائبيّة دعوته للتحقيق الجنائيّ باعتباره الحلَّ السحريَّ لكلّ المشكلات… إنّما من لم يقتنع بجدوى حلّ الرئيس، ما ازداد، طبعاً، اقتناعاً بعرض الرئيس التاريخيّ المجيد باعتباره جنرالاً وقائداً سابقاً للجيش، ومسعّراً لحربيْ التحرير والإلغاء، ومناضلاً ضدّ الاحتلال السوري، ثم مناضلاً مع الرئيس الأسد الابن، ومع زعيم حزب الله، ليصل من هذا الطريق إلى رئاسة الجمهورية. ومن هذا الطريق استطاع (بمعاونة صهره بالطبع) نقل لبنان الدامي إلى واقع لبنان القتيل، وبالتكافل والتضامن مع حليفيْه في لبنان وسورية. طوال أكثر من عقد ما كان يمكن تشكيل حكومة أو انتخاب رئيس إن لم يسلِّم الجميع أنّ عوناً هو الأوحد لكلّ ذلك.

رجال الدين اللبنانيين الكبار المفتي دريان والبطريرك الراعي ومطران بيروت الأرثوذكسي وفي يومٍ واحد (الأحد في 11/4/2021) حملوا على الفساد والاستبداد وسياسات المحاور والابتزاز السياسي وخرق الدستور، ودعوا جميعاً إلى العودة للثوابت وإلى تشكيل حكومة قادرة وإلى الخروج من العزلة عن العرب والعالم. وهم في كلّ ذلك ما ترددوا في اتهام العهد وحلفائه المسلّحين بالتسبب في تلك النوازل بلبنان

وفي الشهور الماضية، بل في الأيام القليلة الماضية أيضاً، ما بقي أحدٌ مغرباً ومشرقاً إلاّ وناشد الرئيس الإقدام على إصدار مرسوم الحكومة التي ناقش الرئيس المكلَّف في تركيبتها وأعضائها ومهمّاتها في ثمانية عشر اجتماعاً. وقالوا له جميعاً وبدون مواربة: الحكومة هي الشرط لمساعدة لبنان. الفرنسيّون والأوروبيّون الآخرون قالوا للرئيس وقالوا. بل وهدَّدوا بعقوباتٍ إن لم يحصل ذلك. لقد كانوا يكتفون أوّلاً بالإعلان: إن لم يساعد اللبنانيّون أنفسهم في تشكيل حكومةٍ إصلاحيةٍ تستطيع التوجّه إلى المجتمعين الدولي والعربي، فلا أحدَ مستعدّ لمساعدة لبنان. وبعد الأوروبيّين قال ذلك الأميركيّون والروس. ثمّ انهالت المناشدات والتحذيرات العربية. أعلن ذلك السفير السعوديّ من قصر بعبدا، ثم قالها وزير الخارجية السعودي. ثمّ جاء وزير الخارجية المصري ليكرّر الطلب والتحذير. وبعده بيوم جاء الأمين العام المساعد للجامعة العربية. المطلب واحدٌ أو متشابه: إقامة حكومة تتمسّك بثوابت الطائف والدستور، وتنفّذ قرارات الشرعية الدولية، وتنصرف إلى إجراء الإصلاحات الجذرية المعروفة، وتتوجّه بالتوازي إلى المؤسسات الدولية القادرة على إنجاد الوطن المنكوب. قالوا جميعاً، وبصراحات متفاوتة كما يقال، هذا المطلب، سواء المسؤولون الكبار أنفسهم في كل تلك الدول، أو سفراؤهم في لبنان. ومع ذلك كلّه لم يحدثْ شيءٌ يفيد سماعاً أو اقتناعاً أو إقداماً.

كيف استطاع فخامة الرئيس “الصمود” في وجه هذه الإرادات الطيّبة؟

أخبرنا الرئيس بذلك في كلمته التي صارت مشهورة، عندما قال إنّه جنرال، وإنّه عنيد ومقاتل، والحلّ ليس في الحكومة، بل في التحقيق الجنائي مع حاكم المصرف المركزي وبقية المصارف.

من الصعب جداً الاقتناع بأنّ قدرات الرئيس الأسطورية هي علّةُ هذا الإصرار على العرقلة وصمّ الآذان عن وقائع التصدّع الوطني والانهيار. بل إنّ الأفظع ما قاله الرئيس أخيراً في الردّ على الدكتور سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية: سبب عجز الرئيس عن التصدّي ومواجهة الأزمات هو موافقة جعجع عام 1990 على دستور الطائف، الذي سلب من رئيس الجمهورية صلاحياته.

يا ناس، إذا كان الرئيس يستطيع إيقاع كلّ هذا الخراب وهو منعدم الصلاحيّات، فماذا كان سيحدث للوطن والدولة لو كانت لدى الرئيس الصلاحيات التي يفتقدها؟!

ما خضع البطريرك لأوهام الوساطات التي تأخذ باليمين ما تعطيه باليسار. ولا خضع لأوهام الرئيس بشأن حقوق المسيحيّين وصلاحياته هو. ولا تردّد أمام الهجوم المباشر من جماعة إيران وسورية في لبنان. لقد توجّه إلى المواطنين في صرخاته السبع عشرة بعنوان: “لا تسكتوا”


بالطبع، هناك حالة الحصار التي يعانيها الرئيس وصهره نتيجة العقوبات الأميركية على الصهر العزيز. وهناك حالة المرارة والغضب نتيجة العزلة المفروضة عليه (ولسوء الحظ: وعلى لبنان!) بسبب خضوعه وخضوع النظام اللبناني كلّه للمحور الإيراني والمتمثّل على الأرض اللبنانية بالتنظيم المسلَّح الذي يُطْبِقُ على كل شيء، بحيث لم يبقَ للّبنانيين لا مصارف ولا مستشفيات ولا جامعات ولا مدارس ولا لقمة عيش، باستثناء ما يأتي من “القرض الحسن”، وأخيراً السِلَع المدعومة، والأدوية الإيرانية.

رجال الدين اللبنانيون الكبار المفتي دريان والبطريرك الراعي ومطران بيروت الأرثوذكسي وفي يومٍ واحد (الأحد في 2021/4/11) حملوا على الفساد والاستبداد وسياسات المحاور والابتزاز السياسي وخرق الدستور، ودعوا جميعاً إلى العودة للثوابت وإلى تشكيل حكومة قادرة وإلى الخروج من العزلة عن العرب والعالم. وهم في كلّ ذلك ما تردّدوا في اتّهام العهد وحلفائه المسلّحين بالتسبب في تلك النوازل بلبنان.

ما وقف فريقٌ وطنيٌّ معتبرٌ في وجه هذا الانسداد القاتل للمواطنين إلا بكركي وسيّدها البطريرك الراعي. فمنذ عشرة أشهرٍ أو يزيد، حدَّد البطريرك ثلاثة أُسُسٍ لاستعادة الوطن والدولة والعيش المشترك ووثيقة الوفاق الوطني والدستور: تحرير الشرعيّة، والحياد الإيجابي، والمؤتمر الدوليّ من أجل لبنان.

وقد فصّل البطريرك في خطاباته وعظاته وبياناته ومذكّراته وسائلَ وطُرُقَ إحقاق الحلّ الوطني تحت هذه العناوين الثلاثة. فتحرير الشرعية الدستورية يكون من السلطة الحاكمة من الأعلى وإلى الأدنى، لأنّ أزمات تشكيل الحكومات ليست بسبب ضيق الدستور أو عدم توازنه، بل بحيلولة الرئيس والحزب وحلفائهما دون تطبيق الدستور. والحياد يعني منع التدخّلات الخارجية من الاستمرار في الاستيلاء على البلاد. والمؤتمر الدوليّ في الأمم المتّحدة ينقذ لبنان من سياسات المحاور والفساد وتصديع المؤسّسات، ويجدّد الاستقلال الوطني.

لقد أنكرت أطرافٌ عدّة على البطريرك دعوته إلى ما سمَّوه “التدويل”. والواقع أنّه لا خطر على الهوية الوطنية من الذهاب نحو الحياد. وهذا هو ما رآه الأمين العام المساعد للجامعة العربية، وهي الأحرص على انتماء لبنان وهويّته. إذ أين صارت الهويّة الوطنية والعربية في خضمّ هذا الاستيلاء الإيراني؟

أمّا الذهاب للمجتمع الدوليّ فليست المرة الأولى التي يحصل فيها. لقد كانت البلاد تذهب للمجتمع الدولي في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، وقد صدرت قرارات عديدة لمنع الاعتداءات وحماية لبنان، وقد صار أشهرَها القرارُ رقم 1701، لكنّ مجلس الأمن أصدر القرار رقم 1559 لإخراج الجيش السوري، ولإزالة الميليشيات المسلّحة. وأصدر القرار رقم 1680 لترسيم الحدود مع سورية، والقرار رقم 1757 لإنشاء محكمة خاصّة لمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري. وما كان ذلك كلّه تدويلاً ولا مساساً بالهويّة أو الاستقلال، بل هي الحماية والمساعدة الظاهرة وراء كلّ هذه القرارات. هناك أعداء، وهناك أعدقاء، ولا مناعة للوطن والمواطنين إلّا بالحياد والذهاب للمجتمع الدولي!

ما خضع البطريرك لأوهام الوساطات التي تأخذ باليمين ما تعطيه باليسار. ولا خضع لأوهام الرئيس بشأن حقوق المسيحيّين وصلاحياته هو. ولا تردّد أمام الهجوم المباشر من جماعة إيران وسورية في لبنان. لقد توجّه إلى المواطنين في صرخاته السبع عشرة بعنوان: “لا تسكتوا”. وذهب إلى المطالبة بالحياد والمؤتمر الدولي، كما كان لبنان الرشيد وصاحب القرار يفعل في الأزمات. وما مرَّ لبنان (باستثناء العام 1982) بأزمةٍ كهذه الأزمة التي نعانيها مع باسيل ونصر الله. لكنّ عام 1982 كان العرب والعالم معنا، وأمّا هذه المرّة فننعزل و”يتشعلق” على أعناقنا الحزب المسلّح والرئيس وصهره ويتهدّدوننا بالحرب الأهلية إن رفعنا رؤوسنا وتطلّعنا للعرب والعالم.

إقرأ أيضاً: بكركي هي الحلّ: الحياد والمؤتمر الدولي

نحن مكشوفون أمام أنفسنا وأمام العالم، ومجروحون، ونَزْفُنا مستمرٌّ ويتعاظم. لا مخرج غير المجتمع الدولي لانتزاع الحياد من السلاح الإيراني، ولانتزاع العافية الوطنية من المافيا المتحكّمة.

مبادرة البطريرك الشجاعة والحكيمة هي أفق الإنقاذ والخلاص.

مواضيع ذات صلة

انتخابات أميركا: بين السّيّئ.. والأسوأ

واشنطن   أصعب، وأسوأ، وأسخن انتخابات رئاسية في العصر الحديث هي التي سوف تحدّد من هو الرئيس رقم 47 للولايات المتحدة الأميركية. في الوقت ذاته…

قراءة سياسيّة في أزمة النّزوح… التي ستطول

حرب عامي 2023 و2024 لا تشبه حرب عام 2006 في العديد من الأمور، ومنها الحكومة القائمة وقتها، والحماسة العربية والدولية للبنان، والحجم الأقلّ للحرب وخسائرها….

رعب أوروبا من تقاطع ترامب وبوتين فوق سمائها

قبل ساعات من فتح صناديق الاقتراع، لا تخفي عواصم في أوروبا قلقها من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ولا يقوم ذلك القلق على شكّ…

“الميدان” الذي ننتظر “كلمته” يتمدّد من الخيام إلى إيران

“الكلمة للميدان” هي اللازمة التي تردّدها قيادة الحزب في تعليقها على جهود وقف النار في لبنان وشروط إسرائيل. بين ما يرمي إليه استخدام هذه العبارة…