منذ انعقاد قمّة قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسيل في كانون الأوّل الماضي، بدا واضحاً أنّ ألمانيا اتّخذت قرار الدخول في تفاصيل الأزمة الماليّة اللبنانيّة بكل جوانبها، لا بل بدا واضحاً أنّ برلين كوّنت تصوّراتها الخاصّة لنوعيّة الخطوات المطلوبة للحلّ. في تلك الفترة، انعكس هذا الاهتمام الألمانيّ في البيان الختاميّ للقمّة، الذي دخل للمرّة الأولى في تفاصيل الإصلاحات الماليّة والاقتصاديّة المطلوبة من لبنان، بعدما تكامل الاهتمام الألماني مع المبادرة الفرنسيّة، لينتجا خريطة طريق مفصّلة بمبادرة مشتركة ألمانيّة – فرنسيّة وتبنٍّ أوروبيّ جامع. ولعلّ دخول ألمانيا على الخطّ، بهذا الزخم، هو ما مهّد منذ ذلك الوقت للتلويح بعقوبات أوروبيّة محتملة على القادة اللبنانيّين، بعدما سهّل الانغماس الألمانيّ في الملفّ اللبناني مهمّة فرنسا التي كانت تحاول إقحام الاتحاد الأوروبي بكل ثقله في تفاصيل الملفّ اللبناني.
منذ ذلك الوقت، تسارع نشاط السفارة الألمانيّة في بيروت على نحو غير مسبوق، إذ عقدت طوال الأشهر الماضية – بعيداً من أضواء الإعلام – اجتماعات مكثّفة مع مجموعات سياسيّة معارضة وأحزاب من مختلف التوجّهات، بالإضافة إلى خبراء ماليّين ملمّين بتعقيدات المشهد الاقتصادي من مختلف نواحيه. ركّزت اللقاءات على محاولة فهم تموضع الأطراف المختلفة من مختلف الشروط الإصلاحيّة المطلوبة من لبنان خلال المرحلة المقبلة. وتشير بعض المصادر الدبلوماسيّة إلى أنّ السفارة عمدت إلى تعزيز كادرها بالموارد البشريّة اللازمة، ليتلاءم مع حجم نشاطها المستجدّ على مستوى متابعة الأزمة اللبنانيّة.
منذ انعقاد قمّة قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسيل في كانون الأوّل الماضي، بدا واضحاً أنّ ألمانيا اتّخذت قرار الدخول في تفاصيل الأزمة الماليّة اللبنانيّة بكل جوانبها، لا بل بدا واضحاً أنّ برلين كوّنت تصوّراتها الخاصّة لنوعيّة الخطوات المطلوبة للحلّ
في أوج هذه “الطحشة” الألمانيّة على الملفّ اللبناني، انتشر خبر العرض الألماني، الذي يُفترض أن يُعلَن رسميّاً خلال الأسبوع الجاري، لإعادة بناء مرفأ بيروت بجهد ألماني – فرنسي مشترك. وما رشح من معلومات حتّى اللحظة يشير إلى أنّ كلفة المشروع تراوح بين 5 و15 مليار دولار، شاملةً إعادة تطوير ما يقارب 100 هكتار من المساحات المحيطة بالمرفأ، ويمكن المشروع أن يوفّر نحو 50 ألف وظيفة.
لكنّ بنك الاستثمار الأوروبي نفى أن يكون قد قدّم حتّى اللحظة أيّ عرض رسميّ متّصل بهذا المشروع، فيما المصادر الدبلوماسيّة، التي سرّبت خبر المشروع، نقلت أنّ معدّيه يراهنون على الحصول على مبلغ يراوح بين 2 و3 مليارات دولار لتمويله. مع العلم أنّ هذا المشروع يتكامل مع رؤية الدولة اللبنانيّة المستقبليّة لتشركة المرفأ، وخصوصاً أنّ الخطّة تلحظ إنشاء شركة مساهمة مدرجة في البورصة.
من جهته، يؤكّد السفير الألماني في بيروت خبر المشروع، الذي سيوقّع عرضه الأوّليّ مجموعة من الشركات الخاصّة من خلال دراسة جدوى تعدّها الشركة الاستشاريّة رولاند برغر، ولن توقّعه رسميّاً الحكومة الألمانيّة. وإن كان المشروع يحظى بمتابعة فاعلة من السفارة ببيروت. وتشير مصادر دبلوماسيّة متابعة للملفّ إلى أنّ مبادرة الحكومة الألمانيّة الرسميّة تنتظر تنسيق أوضح للموقف مع الجانب الفرنسيّ، سواء من ناحية الصيغة الاستثماريّة المطروحة أو من ناحية الشروط السياسيّة المرتبطة به، خصوصاً أنّ فرنسا تملك حساباتها الخاصّة بهذا الموضوع من الناحيتين
بنك الاستثمار الأوروبي نفى أن يكون قد قدّم حتّى اللحظة أيّ عرض رسميّ متّصل بهذا المشروع، فيما المصادر الدبلوماسيّة، التي سرّبت خبر المشروع، نقلت أنّ معدّيه يراهنون على الحصول على مبلغ يراوح بين 2 و3 مليارات دولار لتمويله
لا ينفصل طرح المشروع في هذا التوقيت عن الضغوط الأوروبيّة لتشكيل حكومة تملك تفويضاً واسعاً لتنفيذ الإصلاحات الماليّة والاقتصاديّة التي تبنّاها الاتحاد الأوروبيّ، والتي تنسجم في عناوينها العريضة مع الإصلاحات التي فاوض عليها صندوق النقد الدولي. فالدخول في مشروع، بهذا الحجم، مستحيل من الناحية العمليّة من دون وجود حدّ أدنى من الانتظام في القطاع الماليّ، الذي يضمن للشركات الأجنبيّة استعادة رساميلها في السنوات المقبلة. وهذا يفرض حكماً الشروع في الإجراءات التصحيحيّة المطلوبة التي تبدأ بالـ”كابيتال كونترول” وتنتهي بوضع خريطة طريق لمعالجة خسائر القطاع المالي وتعدّد أسعار الصرف. يستلزم كلّ ذلك أوّلاً البدء بتشكيل حكومة تملك الصلاحيات والغطاء المطلوب للشروع في هذه الورشة. لهذا السبب، تحديداً، ربط السفير الألماني جذب هذه الاستثمارات بإعادة الثقة التي تبدأ من تنفيذ الإصلاحات الفعّالة المنتظرة من لبنان.
إقرأ أيضاً: مرفأ بيروت: تاريخ من العزّ والنكبات
إذن يأتي المشروع الألماني في سياق سياسة الجزرة والعصا التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي في التعامل مع الأزمة اللبنانيّة. وفيما يُطرح المشروع ليكون فرصةً استثماريّةً ممكنةً وعرضاً مغرياً يمكن أن يغيّر المشهد (Game Changer) إذا دخل حيّز التنفيذ، تتسارع الخطوات الفرنسيّة للتمهيد لسياسة أكثر حزماً في ما يخصّ الملفّ اللبناني، قد تصل إلى حدود فرض عقوبات أوروبيّة على عدد من الشخصيات السياسيّة اللبنانيّة. وهذا المسعى الفرنسي ينقسم حاليّاً إلى شقّين: تهيئة الأجواء داخل الاتحاد الأوروبي لموقف جامع لا لبس فيه حيال الملفّ، والتنسيق مع اللاعبين الإقليميّين الأكثر تأثيراً في التخطيط للخطوات المقبلة. ولعلّ الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي إلى السعودية مثّل خطوة إضافيّة في هذا الاتجاه.
أمام كل هذه التطوّرات، يقف لبنان على أعتاب أسابيع حاسمة من حيث علاقته بالمجتمع الدولي. فالخيار يراوح بين مسار تشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات وما يتبعها من فرص استثماريّة يحتاج إليها لبنان بشدّة في هذه اللحظة، وبين الاستمرار في سياسة التعطيل والفراغ أو تشكيل حكومة غير قادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة منها، وما يستتبع واحدهما من عقوبات جديدة يلوّح بها المجتمع الدولي اليوم.