عندما اختار مقرّبون من الرئيس ميشال عون شعار “بيّ الكلّ” ليكون “السلوغون” الرسميّ لـ”العهد”، أرادوا به تنحية صفة “الجنرال”، جانباً لإدراكهم أنّ ذلك شرطٌ أساسيّ ليتمكّن عون من الحكم. فصفة “الجنرال” هي صفة انقساميّة مستمدّة من زمن الحرب، ولذلك اختيرت صفة “بيّ الكلّ” لتكون نقيضها، أي لتكون الصفة التي تتيح لعون تبديل ملابسه القديمة وارتداء بزّة الرئاسة المدنية، التي يُفترض أن تكون “جامعة”، وأن تؤهّله ليلعب دور “الحَكَم”.
فماذا جرى؟
يحيل هذا التناقض بين “بيّ الكلّ” و”الجنرال” إلى التناقض الذي واجهه بشير الجميّل بين خياريْ الميليشيا والرئاسة. لكنّ غالب الظنّ أنّ بشير لو نجا من الاغتيال لكان حسم خياره لصالح الرئاسة لا الميليشيا. وهو ما لم يفعله عون بعد 4 سنوات ونصف السنة تقريباً، من عهده. إذ فضّل “الجنرال” على “بيّ الكلّ”، والرئيس الحاكم بقوّة حليفه حزب الله، أي بقوّة موازين القوى، على الرئيس الحَكَم بقوّة الدستور، أي بقوّة التوازن.
باختصار قرّر “الجنرال” أن يكون “طرَفاً” على أن يكون “حَكَماً” بين اللبنانيين.
الأكيد أنّ الرجل لم يفعل ذلك اعتباطاً أو عن سوء تقدير، بل إنّ تعويمه في كلّ مرّة لصفة “الجنرال” هو تعويم مقصود ومتّصل باللحظة السياسية وبخطة عمل عون وحليفه حزب الله.
لنتخيّل وقع عبارة “أنا ميشال عون”، “أنا ميشال عون الجنرال الذي تعرفونه”، على فئات من المجتمع اللبناني عارضت ميشال عون منذ نهاية الثمانينيّات. ستتذكّر هذه الشرائح قصف مستديرة الأونيسكو قبل ساعات من إعلان عون حرب التحرير. وستتذكّر أيضاً كلّ خطاب “الجنرال” بعد عودته من فرنسا عام 2005، الذي شعرت طائفة لبنانية بأمّها وأبيها أنّه يستهدفها، ولا سيّما أنّ “الجنرال” أقام تحالفاً مع حزب الله لم يسبق أن أخذ أيّ تحالف سياسي في لبنان الوجهة الطائفية المكثّفة التي أخذها.
يحيل هذا التناقض بين “بيّ الكلّ” و”الجنرال” إلى التناقض الذي واجهه بشير الجميّل بين خياريْ الميليشيا والرئاسة
عودة عسكرية؟
هذا كلّه يفترض أن يكون مدعاة مراجعة عميقة للّذين وافقوا على تسوية عام 2016، لأنّ إعادة إنتاج عون صفة “الجنرال” هو إمعان في إسقاط هذه التسوية، وعودة من جانبه إلى ما قبلها، أي إلى “البزّة” العسكرية.
لذلك يُطرح سؤال أساسيّ الآن: كيف يمكن سعد الحريري، شريك عون في هذه التسوية، أن يجلس إلى طاولة مجلس الوزراء مع “الجنرال”؟
في الواقع، تتجاوز المدلولات السياسية لكلمة عون الأربعاء موضوعَ التدقيق الجنائي بحدّ ذاته. التدقيق الجنائي هنا هو أداة سياسية استلّها عون وحليفه حزب الله لتنفيذ هجوم مضادّ على الحراك العربيّ في بيروت، الذي حدّد سقفه وزير الخارجية المصري سامح شكري بتأكيده أنّ طريق الخروج من الأزمة تمرّ عبر الدستور واتّفاق الطائف. وبذلك لاقى شكري كلام السفير السعودي وليد البخاري من قصر بعبدا في 23 آذار، حيث أكّد أنّ اتفاق الطائف هو المؤتمن على الوحدة الوطنية وعلى السلم الأهلي في لبنان.
والحال فقد اتّضحت الركائز السياسية لهذا الحراك العربي، بدءاً من كلام البخاري في بعبدا، ثمّ كلام وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في 4 نيسان عن الوضع اللبناني، حين اشترط لتدعم بلاده لبنان أن تتبنّى الطبقة السياسية إصلاحات سياسية واقتصادية جوهرية. وانتقد سيطرة حزب الله على البنى التحتية الرئيسية، باعتبار أنّ هذا ما يحول دون استمرار المملكة في دعم لبنان.
وبعد تصريح الوزير السعودي زار شكري بيروت في 7 نيسان، واستثنى من لقاءاته رئيس الحكومة المستقيل حسّان دياب والنائب جبران باسيل وحزب الله. وبعد يوم واحد زار الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي لبنان، محذّراً من أنّ “الأصعب آتٍ”. وكانت الدلالةً السياسيّةً الأكثر أهمية في لحظة الشقاق بين برّي وحزب الله في دعم زكي مبادرة الرئيس نبيه برّي الحكومية، دعماً عربياً شاملاً لا بس فيه.
لقد كان الحراك العربي تجاه بيروت واضح المعالم السياسية وذا منهجية متماسكة “تعرّب” المبادرة الفرنسية في ظلّ الضغط المتواصل عليها من قبل الحزب والعهد. وهو ما يمكن أن يزيد من احتمالات تساهلها مع شروطهما إثر التطوّرات المتّصلة بالملفّ النووي الإيراني بعد الاجتماع “البنّاء” في فيينا الثلاثاء.
يُطرح سؤال أساسيّ الآن: كيف يمكن سعد الحريري، شريك عون في هذه التسوية، أن يجلس إلى طاولة مجلس الوزراء مع “الجنرال”؟
ضرب مبادرة فرنسا
في مقابل هذا الحراك انتقل الحزب والعهد إلى الخطة “ب”: قيادة مسار انقلابيّ على الحراك العربيّ.
هذا الحراك قد وضع الدستور واتفاق الطائف سقفاً سياسياً له. سقف ارتكزت كلّ ممارسات العهد، مدعوماً من حزب الله، على تصديعه. إذ لم يخفِ كلا الجانبين رغبتهما في إجراء تعديلات دستورية تعكس موازين القوّة الجديدة.
وكانت كشفت مصادر سياسية لـ”أساس” أنّ اجتماع شكري – عون لم يكن سلساً، وقد خرج وزير الخارجية المصري من الاجتماع بانطباع أنّ عون ضدّ اتّفاق الطائف، وهو ما حدا برئيس الجمهورية إلى إصدار بيان في اليوم التالي أكّد فيه التزام لبنان تطبيق اتّفاق الطائف.
إقرأ أيضاً: أنا ميشال عون: الجنرال العتيق… والمهزوم
في هذا السياق ليس قليل الدلالة أن تتزامن إعادة إطلاق عون معركة “التدقيق الجنائي” مع تحرّكات لمناصري “التيار”، في وقت دعمت كتلة حزب الله النيابية التوجّهات الحكومية للعهد باستعادة الحديث عن الإذعان للخارج وشروطه وإملاءاته، في إشارة إلى الرئيس المكلّف. وهو ما يتوافق مع خطّة العهد والحزب التي ترتكز على تغيير وجهة الصراع حول الحكومة من خلال إسقاط الطبيعة السياسيّة للأزمة التي عبّر عنها وزير الخارجية السعودي في 4 نيسان. وهذا ما أمكن استشفافه من تصريح باسيل تعقيباً على موقف الوزير بن فرحان، إذ أخذ منه الشقّ المتعلّق بالإصلاحات وترك الشقّ المتّصل باتّهام الحزب بالسيطرة على البنى التحتية الرئيسية في لبنان. وكذلك كانت وجهة كلمة عون الأربعاء، فركّزت على الإصلاحات من باب التدقيق الجنائي، وتغاضت عن “الجوهر السياسي” للأزمة.
في المحصّلة، أعاد الحراك العربي تجاه بيروت خلال الأيام القليلة الماضية، وردّ الفعل عليه من قبل الحزب والعهد، تأكيد الطبيعة السياسية للصراع حول الحكومة. ولعلّ إعادة تأكيد كلٍّ من السعودية ومصر أنّ طريق الحلّ للأزمة تمرّ عبر اتّفاق الطائف، تطرح سؤالاً أساسياً على الأطراف السياسية المشاركة في السلطة، التي تساهلت منذ تسوية 2016 مع ممارسات العهد المقوِّضة لاتّفاق الطائف، لأنّها تدرك أن عون يفعل ذلك مدعوماً من الحزب، وهي لا تريد أن تعارض الحزب: هل تستطيع هذه الأطراف، ولا سيّما “تيّار المستقبل”، أن تستمرّ في السلوك السياسي نفسه؟!