في الساعات الـ48 الأخيرة، شهدت بورصة بيروت الحكومية ارتفاعاً في أسهم التشكيل، حتّى يكاد المراقب يسمع الطلق ويتنبّأ بالولادة القريبة. لكن ما كلّ يلمع في السوق السياسية اللبنانية، بالضرورة سيكون ذهباً.
تتزاحم الأحداث والمشاهد والتعقيدات التي تحيط بلبنان. بعضها يوحي بإمكان تحقيق انفراج سياسيّ يسمح بتشكيل حكومة، وبعضها الآخر يشير إلى انسداد الأفق السياسيّ. أمّا الثابت فهو كون الأمر ما عاد يتعلق بتشكيلة حكومية يمكن انتظار “المنّ والسلوى” منها. خصوصاً بعد خروجها على القواعد التي كان يُفترض اتّباعها منذ أُطلقت المبادرة الفرنسية، بعدما تجاوز الفرنسيّون مبادرتهم، فعادت زواريب السياسة المحلية لتتحكّم بمفاصل أساسية من لعبة التشكيل، ما سينعكس حتماً على عمل الحكومة وأدائها. نقاط كثيرة تشير إلى مدى التداخل الدولي والإقليمي مع التعقيدات المحلية.
النقطة الأولى الاجتماعات التمهيدية التي رعتها دول الاتحاد الأوروبي على مائدة “النووي الإيراني”، بحضور الولايات المتحدة الأميركية وإيران، وإن “في مبنيين منفصلين”. دفعت تلك الاجتماعات الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إلى اتخاذ موقف إيجابي يشير إلى تسهيل ولادة الحكومة. فلحق به الجميع تقريباً تحت عنوان “التسوية أوّلاً”. لكن بالطبع تبقى العبرة بالخواتيم.
تتزاحم الأحداث والمشاهد والتعقيدات التي تحيط بلبنان. بعضها يوحي بإمكان تحقيق انفراج سياسيّ يسمح بتشكيل حكومة، وبعضها الآخر يشير إلى انسداد الأفق السياسيّ
النقطة الثانية استمرار إيران في التصعيد في اليمن، وخصوصاً في معركة مأرب، على الرغم من التهدئة في لبنان، وهي تستخدم الورقة اليمنيّة في إطار الضغط على المملكة العربية السعودية.
النقطة الثالثة تتمثّل في تجدّد الحركة الفرنسية بزخم وقوة من خلال تحريك الاتصالات بكل القوى السياسية والطلب منها تقديم تنازلات لتسهيل ولادة الحكومة. وتعتبر فرنسا أنّ اللحظة مؤاتية جداً للتشكيل، وأنّ مبادرة الـ24 وزيراً هي الصيغة الأنسب والأمثل. وقد أوصلت باريس رسائل قاسية إلى رئيس الجمهورية وجبران باسيل الذي يسعى إلى حفظ ماء وجهه.
النقطة الرابعة هي تطوّر الحركة المصرية التي كان يقودها سفيرها في لبنان ياسر علوي، من خلال حضور وزير الخارجية سامح شكري إلى بيروت اليوم. وسيعقد لقاءات مع رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، والرئيس المكلّف سعد الحريري. وبحسب ما تكشف المعلومات، سيلتقي وزير الخارجية المصري رؤساء الحكومة السابقين أيضاً. وتؤكّد هذه الزيارة حرص مصر على دورها في لبنان، من خلال الحفاظ على التوازنات التي تحفظ الاستقرار ولا تدعم غلبة طرف على آخر. لكنّ مصر ترفض خروج المبادرة الفرنسية على أصولها وثوابتها، وليس مقبولاً أن يتغيّر الموقف لأنّ باريس تريد إنجاز حكومة بأيّ ثمن. فالأهمّ هو نوعية الحكومة وكيفية عملها. وكان هذا الاختلاف نفسه بين باريس والقاهرة يوم تدخّلت باريس لإقناع الحريري بالتنازل عن وزارة المال. ولطالما تمسّكت مصر بحكومة مصغّرة مؤلّفة من اختصاصيّين، لا ثلث معطّلاً فيها. أما وقد أصبح الطرح القائم “حكومةً من 24 وزيراً”، فإنّ مصر ستحاول استيضاح الموقف عن كثب لمعرفة مدى فعالية هذا الطرح، ومساهمته في حلّ المشكلة من دون أن يترتّب عليه خروج على القاعدة الأساسية، وهي تشكيل حكومة من اختصاصيين لا ثلث معطّلاً فيها، والالتزام بالبرنامج الإصلاحي.
النقطة الخامسة تتعلّق بالموقف السعودي الذي أطلقه وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، ويكتسب أهمية متعددة الاتجاهات، في الشكل والمضمون والتوقيت، إذ جاء الموقف بعد اتصال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وتناولا، بحسب بيان “الإليزيه”، الملفّ اللبناني، وأبديا اهتماماً مشتركاً بتشكيل حكومة ذات صدقية. أمّا البيان السعودي فلم يُشِر إلى الملف اللبناني. بينما تولّى بن فرحان شرحاً كاملاً وتفصيلياً لموقف المملكة، وهو ما يدلّ على عدم حصول أيّ تغيير في موقفها، وهذا يقود الى استنتاج جملة نقاط:
1- السعودية لا تتعاطى مع أشخاص، بل مع دولة لبنان، وهي مستعدة لدعمها بشرط تطبيق ما يلزم من شروط المجتمع الدولي المتعلقة بالإصلاح.
2- لا يوجد موقف سعودي داعم للحريري، لكن لا يوحي المُعلَن بمواجهة مع الرئيس المكلف.
3- الإشارة إلى حزب الله تطول بشكل أساسي الحزب وحلفاءه، وخصوصاً العهد والتيار الوطني الحرّ، ومحاولة جبران باسيل استغلال موقف السعودية هو أمر في غاية التفاهة السياسية، ويعبّر عن سياسة طفولية في مقاربة الملفات الأساسية. خصوصاً تغريدته عن “خفض الفوائد”، وهو العارف أنّ لا دولارات في المصارف ولا ودائع ولا فوائد.
4- في الكلام عن سيطرة حزب الله على الدولة والبنى التحتية، إشارة واضحة إلى أنّ السعودية تحمل دفتر شروط للحكومة المقبل، وأهمها نأي لبنان بنفسه، وأن يخرج من سياسة المحاور، وأن يلتزم بالقرارات الدولية، وعلى رأسها تلك التي ذكرها السفير وليد البخاري من قصر بعبدا، ولا سيّما القرارين 1559 و1701… وترفض المملكة التعاون مع لبنان طالما أنّ حكومته تتبنّى سياسات حزب الله.
تطوّر الحركة المصرية التي كان يقودها سفيرها في لبنان ياسر علوي، من خلال حضور وزير الخارجية سامح شكري إلى بيروت اليوم. وسيعقد لقاءات مع رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، والرئيس المكلّف سعد الحريري
هل يصلح الموقف السعودي ليكون ورقة عمل أو برنامجاً حكومياً شاملاً؟
من دونه لا يمكن للبنان الحصول على أيّ مساعدات حقيقية. والسعودية لا تقف خلف شخص بل خلف برنامج، وهي حتماً لا تعير اهتماماً لأيّ حركة يسعى إليها البعض لحصر مشكلة الحكومة في لقاء بين سعد الحريري وجبران باسيل. بل إنّ هذا الأمر قد يُفشل الحكومة قبل ولادتها، ولا يمكن أن يكون محطّ موافقة أو مباركة سعودية.
إقرأ أيضاً: مبادرة جنبلاط: هكذا “دفشها” برّي.. وأسقطها باسيل
الحركة نشطة وفعالة من جهات متعدّدة، لكن مجدداً لا يمكن حسم إمكان الوصول إلى النتيجة المرجوّة، فتشكيل الحكومة لا يكون بلقاء الحريري وباسيل، ولا بإرضاء الأخير، كما تحاول أن تفعل باريس، التي تخطئ في الحساب مجدّداً، وتظهر وكأنّها الأم التي لا تعرف أبناءها.
أيّ حلّ من هذا النوع يعني تكرار تجربة حسان دياب. وقد ردّد السفير السعودي في أحد لقاءاته مقولة آينشتاين الشهيرة لتبيان عدم جواز تكرار الخطأ نفسه: “الغباء هو فعل الشيء نفسه بالأسلوب نفسه والخطوات نفسها، وتوقّع نتيجة مختلفة”. وكانت هذه الثابتة واضحةً في موقف وليّ العهد السعودي خلال اتّصاله بماكرون وكلامه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لدى تناول الملف اللبناني.