الانتخابات الفلسطينية: أسئلة وعقبات (1/2)

مدة القراءة 10 د

الانتخابات في المجتمعات المعاصرة، بغضّ النظر عن ظروفها، ليست ترفاً ولا إجراء اختيارياً، وإنما هي وسيلة لتدوير النخب في مؤسسات الحكم، ولتجديد الأجيال وتجديد الدم فيها، وإدخال الأفكار الجديدة والمتنوعة إلى دوائر القرار، وهي كذلك الضمانة الأساسية للصلة الحيوية بين الحاكم والمحكوم، وآلية للمساءلة اللازمة لضمان سلامة الحكم واستجابة الحاكم لأولويات الجمهور. ويجب ألّا ينطلي على أحد محاولات التذرع بالاحتلال أو بالانقسام كمبرر للتنصل من الاحتكام إلى الجمهور والرجوع إليه عن طريق صناديق الاقتراع.[1]

وعلى الرغم من الانتظار الطويل للانتخابات الفلسطينية، فإن مرسوم الرئيس الفلسطيني محمود عباس القاضي بإجراء الانتخابات، أخذ معظم الفلسطينيين على حين غرّة، ذلك بأنهم اعتادوا في الأعوام الأخيرة على وعود بإجراء الانتخابات وإنهاء الانقسام من دون الوفاء بتلك الوعود، ولذلك لم يؤخذ إعلان استئناف الحوار والاتفاق على المصالحة عن طريق إجراء الانتخابات على محمل الجد. وقد طغى هذا الشعور على معظم تعليقات الخبراء الذين أجمعوا على أن “من الطبيعي أن يستقبل الشعب الفلسطيني ببرود، أو بترحيب مشوب بالحذر، ما جاء في المؤتمر الصحافي الذي عقده كل من جبريل الرجوب وصالح العاروري، وإعلانهما عن الاتفاق على وحدة ميدانية لمواجهة الضم ورؤية ترامب. فهذا المشهد شاهده الشعب مرات عدة، وسط الإعلان عن اتفاقات المصالحة، من اتفاق مكة، مروراً باتفاق القاهرة الأول، وإعلان الدوحة، وإعلان مخيم الشاطىء، وليس انتهاء بإعلان القاهرة الثاني في تشرين الأول / أكتوبر 2017.”[2]

وقد صدر مرسوم الرئيس لإجراء الانتخابات التي طال انتظارها في 15 / 1 / 2021، متضمناً تعديلاً جوهرياً على قانون الانتخابات الأصلي، قوامه أن تتم الانتخابات التشريعية والرئاسية بشكل متتالٍ وليس بالتزامن، بعد أن قبلت “حماس” بذلك لتزيل العقبة الرئيسية المتبقية أمام إجراء الانتخابات.[3]

 أسئلة الانتخابات

تميزت ردات فعل الجمهور الفلسطيني ونخبه المتنوعة في البداية بطرح الأسئلة المشروعة بشأن مرسوم إجراء الانتخابات التي تشمل المجلس التشريعي ورئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية، فضلاً عن استكمال تشكيل المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن يصبح الأعضاء المنتخبون في المجلس التشريعي أعضاء في المجلس الوطني.

ومن أبرز الاسئلة المشروعة التي طُرحت: لماذا فجأة أصبح إجراء الانتخابات ممكناً في ظل الانقسام وقبل إنجاز المصالحة، في حين كان إنجاز المصالحة دائماً شرطاً مسبقاً لإجراء الانتخابات وذريعة لعدم إجرائها؟ ويصبح هذا السؤال مشروعاً أكثر في ضوء الذريعة المتكررة بأن من شأن إجراء الانتخابات قبل المصالحة تعزيز الانقسام ومأسسته، هذا علاوة على الموقف الرسمي الذي أكد دائماً أن نزاهة الانتخابات تتطلب أن يشرف عليها نظام قضائي واحد وجهاز أمني واحد، كما أنها مسؤولية لجنة انتخابات واحدة. وينبثق من هذا السؤال سؤال فرعي لا يقل أهمية وهو: إذا كان إجراء الانتخابات ممكناً في ظل الانقسام مثلما هي الحال الآن، فلماذا انتظرنا 14 عاماً؟

على الرغم من الانتظار الطويل للانتخابات الفلسطينية، فإن مرسوم الرئيس الفلسطيني محمود عباس القاضي بإجراء الانتخابات، أخذ معظم الفلسطينيين على حين غرّة

وربما يلخص “مركز الجزيرة للدراسات”، عشرات التحليلات والتصريحات القلقة إزاء وضع العربة أمام الحصان، والذي جاء فيه: “إن إجراء الانتخابات في بيئة سياسية منقسمة على ذاتها قبل معالجة قضايا الخلاف الجوهرية التي كرّست الانقسام يمثل مخاطرة كبيرة ويمكن أن يسهم في تكريس حالة التشظي التي تعيشها الحلبة السياسية الفلسطينية.”[4]

السؤال الثاني الذي لا يقل أهمية يتعلق باستكمال عضوية المجلس الوطني لمنظمة التحرير في 31 / 7 / 2021، والذي ينطوي على إدخال حركة “حماس” لتكون شريكاً في المنظمة، الأمر الذي شكّل المطلب الأساسي لتلك الحركة في مختلف مراحل الحوار. وكانت مبررات تحفّظ حركة “فتح” وعدد من شركائها على إدخال “حماس” إلى المنظمة تتلخص بحجتين:

الأولى أن دخول “حماس” إلى منظمة التحرير قد يشكل خطراً على اعتراف العالم بالمنظمة كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، لأن كثيراً من دول العالم يعتبر “حماس” منظمة “إرهابية”. فماذا تغير في هذا الصدد؟ وإذا كان من الممكن التعايش مع هذا الخطر، فلماذا إضاعة أربعة عشر عاماً؟

الحجة الثانية التي لا تقل أهمية، هي أن “فتح” في مواقفها الرسمية، وفي مفاوضاتها مع “حماس”، كانت تحاول الحصول على ثمن دخول الأخيرة إلى المنظمة، وتحديداً، تنازلها عن السيطرة على قطاع غزة من أجل توحيد النظام السياسي، وإنهاء الانقسام وعودة قطاع غزة إلى الشرعية الفلسطينية، الأمر الذي يبرر أن تصبح “حماس” جزءاً وشريكاً في هذه الشرعية. فإذا كان على “فتح” التنازل عن هذا الشرط، فلماذا أضاعت هذه الأعوام كلها؟

قد يساعد في الإجابة على بعض هذه الأسئلة توقيت هذه المبادرة، إذ يشير العديد من التحليلات إلى تأثير عوامل خارجية ساهمت في تليين مواقف الأطراف المتحاورة، وهو ما أوضحه جبريل الرجوب نفسه في تفسير التغيرات في مواقف “حماس” حين أشار إلى “أن الحوار مع حركة ’حماس’ لم يتوقف وكان هناك لقاء خلال وجوده في قطر، وأيضاً دخلت أطراف إقليمية بجهد إيجابي تُوّج بالمخرجات التي حدثت على مدار الساعات الماضية والتي كانت بشرى في ذكرى الثورة.”[5]

 عقبات في طريق الانتخابات

وعلى ما يبدو، فإن شدة رغبة الفلسطينيين في الانتخابات ساعدت في تجاوز هذه الأسئلة، والانتقال إلى محاولة الاستفادة من هذه الفرصة. وأكثر ما يلفت الانتباه هنا جملة التغيرات التي جرت بشأن بعض مضامين قانون الانتخابات وقانون السلطة القضائية، والتي رأى فيها عدد من الخبراء تقييداً لحرية الانتخابات وإحكاماً لقبضة السلطة التنفيذية بهدف التأثير في نتائجها. ومن الأمثلة لهذه التعديلات في قانون الانتخابات، إلغاء التزامن بين الانتخابات التشريعية والرئاسية، والذي عارضته “حماس” ثم عادت ووافقت عليه في مقابل مكاسب معينة أُخرى مثل إلغاء النص في القانون الذي يشترط على مَن يترشح الاعترافَ بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، والذي كانت تعارضه هذه الحركة.

إن العقبة الأولى والأخطر في الطريق إلى الانتخابات، هي إسرائيل التي لم يصدر عن مسؤوليها أي تعليق يفيد بارتياحهم أو امتعاضهم من هذه الانتخابات. ولمَن لا يعرف تفصيلات حياة الشعب الفلسطيني في الضفة بما فيها القدس وقطاع غزة، فإن إسرائيل تتحكم في كثير من جوانب الحياة، ليس أقلّها التنقل. لكن أهم ما يمكن أن يعوق الانتخابات، أو يجعلها فارغة من مضمونها الديمقراطي والوطني، هو منع إسرائيل سكان القدس الشرقية من الفلسطينيين من المشاركة في الانتخابات المقبلة، على الرغم من مشاركتهم ترشيحاً وتصويتاً ودعاية انتخابية في المرتين اللتين جرت فيهما انتخابات منذ نشوء السلطة.

العقبة الثانية تتعلق بهشاشة التفاهمات بين “فتح” و”حماس”، إذ إن كثيراً من نقاط الخلاف لم يتم حلّه، فعلى سبيل المثال: أي محاكم أو نظام قضائي سيكون مناطاً بهما البت في قضايا تتعلق بالانتخابات؟ وأي جهاز أمني سيكون مسؤولاً عن النظام والقانون في كل من الضفة الغربية وقطاع عزة؟ وعلى ما يبدو، فإن “حماس” لا تتقبل حتى الآن وجود شرطة تابعة للسلطة الفلسطينية في غزة، كما أن لجنة الانتخابات المركزية لا تتفهم وجود نظامَين أمنيين تابعين لحكومتَين مختلفتين في هذه الانتخابات الواحدة. مثال آخر يتمثل في أن الرئيس لم يستجب لأكثرية التوصيات التي رفعتها إليه الفصائل المجتمعة في القاهرة، مثل تخفيض عمر المرشحين، وتخفيض الرسوم، وإلغاء شرط الاستقالة قبل الترشيح وغيره.

دخول “حماس” إلى منظمة التحرير قد يشكل خطراً على اعتراف العالم بالمنظمة كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، لأن كثيراً من دول العالم يعتبر “حماس” منظمة “إرهابية”

أمّا العقبة الثالثة فتتعلق بتفاقم الخلافات داخل حركة “فتح”، ولذلك مؤشرات كثيرة، منها تصريحات وتحركات عضو اللجنة المركزية للحركة ناصر القدوة الذي رفض اتفاق حركته مع “حماس”، واصفاً هذا الاتفاق بأنه يكرس مكاسب فردية للقائمين عليه على حساب المصلحة العامة، ومحذراً زملاءه من أن خوض الانتخابات في قائمة فتحاوية رسمية موحدة سيشجع الجمهور على النظر إليها كقائمة تمثل السلطة التي لا تحظى بأي قدر من الاحترام الشعبي، الأمر الذي سيؤدي إلى معاقبة الجمهور لها من خلال التصويت. وبناء عليه، قرر خوض الانتخابات بقائمة منفصلة.[6]

وتكمن العقبة الرابعة في عدم استجابة الرئيس حتى الآن للطلبات التي أجمعت عليها الفصائل في لقاء القاهرة، والتي تشمل التوصية بتشكيل محكمة اعتراضات متفق عليها، وإلغاء القيود في قانون الانتخابات التي تحدّ من اتساع المشاركة، وخصوصاً الشبابية، بما في ذلك اشتراط استقالة أي مرشح من وظيفته قبل شهر من ترشحه للانتخابات، وألّا يقل عمر المرشح عن 28 عاماً، وأخيراً شرط دفع تأمين مالي بقيمة 20,000 دينار أردني. فقد جاء في البند 11 من البيان المشترك للفصائل بعد اجتماع القاهرة: “رفع توصية للرئيس للنظر في تعديل النقاط التالية لقانون الانتخابات: تخفيض رسوم التسجيل والتأمين؛ طلبات الاستقالة؛ عدم المحكومية؛ نسبة مشاركة النساء؛ تخفيض سن الترشيح.”[7]

إقرأ أيضاً: هنية والحزب ومسؤوليات الانهيار في فلسطين ولبنان

النوع الثاني من المشكلات الداخلية في “فتح” يتعلق بنيّة عضو آخر في اللجنة المركزية هو مروان البرغوثي الموجود في السجون الإسرائيلية الترشح للرئاسة، فهو أيضاً ينتقد أداء السلطة بصورة عامة، ويدعمه ويسير في تياره إمّا مؤيدون لخطّه السياسي الذي يحبذ المواجهة مع المحتل على المساومة، وإمّا مجموعات وأفراد يشعرون بالتهميش في “فتح”، ويعبّرون عن معارضتهم لمركز “فتح” بالانخراط فيما يسمى تيار مروان، وهو ما يشكل تحدياً وإحراجاً للحركة، ليس فقط لأنه يعكس انقساماً وضعفاً، بل لأن مروان يشكل أيضاً منافساً جدياً في أي انتخابات رئاسية، نظراً إلى شعبية الخط السياسي الذي يحمله، وبسبب التعاطف الشعبي مع الأسرى وقضيتهم، ولأن الجمهور سيحمّل الرئيس عباس، كمرشح للرئاسة، مسؤولية سوء أداء السلطة.

 

المصادر:

[1] كنت قد نشرت مقالة عن مخاطر تراجع ثقافة الانتخابات في المجتمع الفلسطيني في مدونة جامعة بيرزيت، بعنوان “الجذر التربيعي لأزمة النظام السياسي الفلسطيني“.

[2] هاني المصري، “ما بعد مؤتمر الرجوب – العاروري؟“، موقع “مسارات”.

[3] يمكن الاطلاع على نص هذا المرسوم في موقع اللجنة المستقلة للانتخابات في الرابط الإلكتروني.

 [4] صالح النعامي، “الانتخابات الفلسطينية 2021: السياق والتوقعات“، موقع “مركز الجزيرة للدراسات”.

[5] “الرجوب: أطراف إقليمية كان لها دور في موافقة ’حماس’ على الانتخابات“، موقع “النجاح نيوز”.

[6] صدرت مواقف الدكتور ناصر القدوة في سياق مداخلة له في مؤتمر معهد أبو لغد للدراسات الدولية في جامعة بيرزيت، ويمكن الاستماع إليها في فيديو مرفوع في موقع فايسبوك، في الرابط الإلكتروني.

[7] انظر النص الكامل لبيان القاهرة في موقع “وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية” (“وفا”)، في الرابط الإلكتروني.

  

* أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت.

هذا النص هو مجموعة من نصوص في ملف نشرته مجلة “الدراسات الفلسطينية” التي تصدر في بيروت ويرأس تحريرها الروائي الياس خوري. وقد حمل الملف عنوان “التطبيع والتتبيع” ويضمّ 20 نصاً كتبها مجموعة من المثقفين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب.

 

ملاحظة: كتب هذا المقال قبل إعلان التحالف بين البرغوتي والقدوة وترؤس الأخير لائحة مرشحين مستقلّة عن لائحة “فتح” بينهم زوجة الأسير مروان البرغوتي. 

مواضيع ذات صلة

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…

فرنجيّة وجنبلاط: هل لاحت “كلمة السّرّ” الرّئاسيّة دوليّاً؟

أعلن “اللقاءُ الديمقراطي” من دارة كليمنصو تبنّي ترشيح قائد الجيش جوزف عون لرئاسة الجمهورية. وفي هذا الإعلان اختراق كبير حقّقه جنبلاط للبدء بفتح الطريق أمام…