مصرف لبنان يصرّف الأعمال حتى تشكيل حكومة؟

مدة القراءة 5 د

كل شيء مجمّد في مصرف لبنان حتى تشكيل الحكومة الجديدة باستثناء العاجل من الأمور. هذا هو التفسير الوحيد لتمديد العمل بالتعميم رقم 151 حتى آخر أيلول المقبل (الإجراءات الاستثنائية حول السحوبات النقدية من حسابات العملاء بالعملات الأجنبية)، بحيث يستمرّ المودعون بسحب دولاراتهم المودعة لدى البنوك بالليرة اللبنانية بسعر 3900 ليرة للدولار، ليس لأنّ الاستمرار بتطبيق هذا التعميم معقول، بل لأنّ الوقت ليس ملائماً لاتخاذ قرارات كبرى في ظرفٍ يخلو من أيّ إمكان لوجود سلطة سياسية قادرة على تحمّل قسط من المسؤولية أو نزع صاعق الانفجار الوشيك.

تبعاً لذلك سيتحمّل المودعون خصماً (هيركت) يقارب 70% ممّا يسحبونه من ودائعهم، لأنّ مصرف لبنان ليس في وارد تحريك أحجار الدومينو الآن، ولأنّ أيّ رفع لسعر المنصة سيؤدي إلى خروج الكتلة النقدية بالليرة عن السيطرة، وسيصبح الضغط أكبر على سعر صرف الليرة، طالما أن الأوضاع مجمّدة على المستوى الحكومي. وفي المقابل، لا يمكن التخلي عن المنصة وسعرها والعودة إلى صرف الودائع بالسعر الرسمي (1507 – 1515)، لأنّ ذلك سيكون بمنزلة خنق كامل للمودعين، فكان القرار بإبقاء السحوبات من الودائع الدولارية على حالها مع إيجاد وسائل أخرى لتقليص الفجوة مع السوق الموازية.

يفوق سعر الصرف في السوق الموازية (أي في سوق الصرّافين، السوق السوداء) سعر المنصة بـ220%، ويعادل أكثر من ثمانية أضعاف السعر الرسمي، وقد وصل لوقت وجيز إلى عشرة أضعافه. لا مثيل لهذه الفجوة بين السعرين الرسميين (الرسمي الأساسي وسعر المنصة) وسعر السوق الموازية، ولا يمكن استمرارها لوقت طويل. وأقرب الأمثلة سوريا التي، على سوء الوضع فيها، اضطرت إلى رفع سعر صرفها الرسمي بما يقارب 300 ضعف منذ بداية الثورة في 2011 لتبقى الفجوة مع السعر الموازي في حدود المعقول. واليوم يعادل السعر الموازي أربعة أضعاف السعر الرسمي تقريباً.

سيتحمّل المودعون خصماً (هيركت) يقارب 70% ممّا يسحبونه من ودائعهم، لأنّ مصرف لبنان ليس في وارد تحريك أحجار الدومينو الآن

وتنصّ قواعد الاقتصاد على أنّه كلما اتسعت الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي اتسعت مساحة السوق السوداء وزاد الاستغلال والهدر وفقدان القيمة (deadweight loss). ولا يتحمل المودعون وحدهم سلبيات الفجوة، فالبنوك تتضرر أيضاً، لأنها تضطر إلى قبول سداد قروض التجزئة المحررة بالدولار، بالليرة اللبنانية وفق سعر الصرف الرسمي البائد. وهذه الخسارة ستُرَحَّل في وقت ما إلى المودعين حين يبدأ الكلام الجدّي على توزيع الخسائر.

في الأصل كان سعر المنصة (3900 ليرة) محاولة من مصرف لبنان لتقليص الفجوة مع سعر السوق الموازية، إذ كان سعر الصرافين حينها يفوق سعر المنصة (يصح وصفه بسعر الصرف الرسمي الرديف) بما لا يزيد على 50%. لكن كما هو واضح، تجاوزت وقائع السوق سعر المنصة، وبات لا بد من ابتكار جديد لتقليص الفجوة بين السوق الموازية والسعر الرسمي الرديف، فكانت عملية إعادة تقديم المنصة بعلامة تسويقية جديدة كغطاء لإطلاق سعر رسمي ثالث بمستوى يقارب 10 آلاف ليرة مقابل الدولار.

وليس مفاجئاً نفي مصرف لبنان للأنباء التي أشاعت أنّه لن يفعّل المنصة الجديدة قبل تشكيل الحكومة، فقرار إنشاء المنصة أصلاً ليس قراراً كبيراً ولا حلاً لأزمة الليرة كما جرى الإيحاء في أوساط العهد. كل ما في الأمر محاولة للتعايش مع وقائع السوق من دون قرارات كبيرة تتعلق بسعر الصرف الرسمي أو أسس النظام النقدي.

المشكلة في منهج تصريف الأعمال الذي يمارسه مصرف لبنان أنّه يحاول تجميد وضعٍ قائمٍ غير قابل للتجميد، وأنّ للوقت الذي يمر ثمناً باهظاً ليس من المستبعد أن ينتهي بانفجار. ففي شهر كانون الثاني وحده خسرت احتياطيات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية 628 مليون دولار، أي أكثر بمرتين ونصف مرّة من القرض الذي يتسوّله لبنان من البنك الدولي لمساعدة الأسر الأكثر حاجة.

ليس مفاجئاً نفي مصرف لبنان للأنباء التي أشاعت أنّه لن يفعّل المنصة الجديدة قبل تشكيل الحكومة، فقرار إنشاء المنصة أصلاً ليس قراراً كبيراً ولا حلاً لأزمة الليرة كما جرى الإيحاء في أوساط العهد

والمشكلة الكبرى أن لا أحد في هذا البلد يمسك بآلة حاسبة ليحصي الدولارات التي تُبدد كل يوم في غياب أيّ سلطة سياسية فاعلة. فخلال 17 شهراً من الأزمة خسر مصرف لبنان نصف احتياطيّاته الأجنبية، لتهوي من 31 مليار دولار إلى نحو 16 مليار دولار، وفق ما صرّح به وزير المال في الحكومة المستقيلة غازي وزني. ولا بد للبنانيين أن يأسفوا على 15 مليار دولار ضاعت بلا مقابل، وكان في الإمكان أن تكون ركيزة جيدة لبرنامج إنقاذي، فأيّ برنامج تمويلي مع صندوق النقد الدولي من الصعب جداً أن يصل إلى ثلث هذا الرقم.

إقرأ أيضاً: مصرف لبنان يعيد اختراع المنصّة: 10.000 بدلاً من 3900

مجال آخر يطوله تصريف الأعمال هو إعادة هيكلة القطاع المصرفي. فكل ما يجري هذه الأيام من تكوين للحسابات الخارجية، وما يسمى “زيادات رؤوس الأموال”، وتقويم الموجودات والمطلوبات، هو مجرد تحسينٍ لشروط الاستمرار لأطول وقت ممكن، ريثما تتشكل سلطة قادرة على التفاوض مع صندوق النقد الدولي وجلب المساعدات والقروض من الخارج. وأصبح واضحاً عدم اكتمال تكوين حسابات محرّرة من الالتزامات لدى البنوك الخارجية المراسلة بما يعادل 3% من الودائع بالعملات الأجنبية، وعدم اكتمال زيادات رؤوس الأموال بنسبة 20%. ومن المؤكد أنّ لجنة الرقابة على المصارف لم تتلقّ حتى الساعة خطط إعادة تكوين رؤوس الأموال لكل البنوك، بل إنّ بعض ما تلقّته من خطط البنوك منفصلٌ عن الواقع ولا يوحي بالجدية.

يقول المصرفيّون إنّ كل ما هو متداول اليوم مجرد مسكّنات للتخفيف من مرض عضال، وأمّا الجراحة الكبرى فلا يمكن إجراؤها في عيادة مصرف لبنان، فهي تحتاج إلى مستشفى حكومي.

مواضيع ذات صلة

لبنان بين “وصاية” صندوق النّقد وتسهيلات “البريكس” (1/2)

أثارت الأزمة الاقتصادية المعقّدة في لبنان مناقشات حول البدائل المحتملة لصندوق النقد الدولي، حيث اقترح البعض أن تتحوّل البلاد إلى “البريكس” كمصدر لدعم التعافي. وبالنظر…

لبنان على القائمة الرمادية: إبحار المصارف في حالة عدم اليقين(2/2)

بعدما عرضت الحلقة الأولى من التقرير، تداعيات إدراج لبنان على القائمة الرمادية، تتناول الحلقة الثانية الإجراءات التفصيلية التي ستترتب على هذه الخطوة، سواء في ما…

إسرائيل تعرّي النّفط الإيرانيّ ولا تشعله

يحتاج الاستنتاج السريع بأنّ إسرائيل حيّدت منشآت النفط الإيرانية من ضربتها، إلى الكثير من التدقيق. واقع الأمر أنّها أعطت الأميركيين ما يريدونه فيما وجّهت إلى…

لبنان على القائمة الرّماديّة: تحدّيات ومنافذ (1/2)

ليست المرّة الأولى التي يواجه فيها لبنان تدقيقاً دولياً بشأن ممارساته الماليّة بفعل إدراجه على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF). وقد سبق له أن…