موت المطربة السورية ميَّادة بسيليس، التي كانت أغانيها العاطفية جزءاً حميماً من ذاكرة جيلي، يُبرز المعضلة التي لم ننجح بعدُ في تجاوزها لدى رحيل كلّ فنَّان سوريّ شكّل جزءاً من تلك الذاكرة.
ففور قراءتي لخبر رحيلها المفاجئ، حيث اختفت أخبارها من الإعلام منذ سنوات حتى كدنا ننسى وجودها، سرعان ما تبادر إلى ذهني السؤال الذي بات يُخيفني فعلاً: مع مَنْ وقفتْ ميَّادة بسيليس في الحرب القائمة بين الشعب والدكتاتور؟
لقد خشيتُ أن أسأل زوجتي، التي أصابها الحزن الشديد وهي تقرأ معي الخبر، عن موقف ميَّادة ممّا جرى في سوريا! خشيتُ أن أُحرَم من كتابة كلمةٍ جميلةٍ في حقّها إذا اتَّضح لي أنّها كانت مؤيّدة لبشار الأسد فعلاً. خشيتُ أن تغدوَ ذكرياتي مع أغنياتها شيئاً محرَّماً لا يجدر بي الحديث عنه.
إنَّ الحزن السوريّ على رحيل المبدعين السوريّين لم يعد حزناً صافياً. لقد عكَّرتهُ الأسئلة الكبيرة والأجوبة التي قاربت أن تكون أحكاماً مبرمة. صار حزناً مشروطاً، وإلَّا فحزنٌ صامتٌ يخجل المرء أن يعلنه.
الأرجح أنّ سوريا القديمة، التي شارفت على التلاشي التامّ، أبت إلا أن تأخذ معها في رحلة التلاشي المستمرَّة كلَّ ما يخصُّها، بشراً وحجراً، وذكرياتٍ أيضاً
هذا المقال ليس مقال رثاءٍ لميَّادة بسيليس، التي تستحقُّ طبعاً أن نرثيها كفنَّانةٍ تركت أثراً فنّياً ووجدانياً على السواء، ولكنْ لكي أسأل نفسي السؤال الذي بات يشغل بالي مثلما يشغل بال كلّ الذين ذكرياتُهم عزيزةٌ عليهم: كيف نحمي ذكرياتنا من حاضرنا الرهيب؟
فالزلزال الكبير الذي ضرب الحاضر السوري لم تقتصر آثاره على هذا الحاضر وعلى المستقبل الآتي، بل امتدَّت لتطول الماضي أيضاً، إلى درجة أنَّ المتأمّل يمكن أن يساوره الشكّ – بسبب حجم الضرر الذي أصاب الماضي – في أنَّ هذا الزلزال قد حدث في الماضي قبل عقود عديدة، وليس في هذا الحاضر!
كيف نحمي ذكرياتنا من سقوط الذين صنعوا جزءاً مهمَّاً منها؟
فإذا كانت ميَّادة بسيليس قد “ساعدتنا” في إنقاذ ذكرياتنا الجميلة عنها حين اختارت ألّا تعلنَ موقفاً صريحاً في تأييد الدكتاتور، فثمَّة فنَّانون غيرها جاهروا بعدائهم للشعب منذ أن كانت التظاهرات في مرحلتها السلمية، بل وفي أيامها الأولى، ولم يتركوا لنا من خيارٍ إلا طرد تلك الذكريات من حياتنا.
كيف نحمي ذكرياتنا الهشَّة من يد الحاضر الخشنة؟ كيف نحميها من هذه الحقائق المريرة التي نحاول تكذيبها من دون جدوى؟
فنَّان بحجم دريد لحَّام، وفي كلمةٍ ألقاها ضمن حفل مصوَّر، ضرب عرض الحائط بمأساة جزء كبير من السوريين الذين طالما سالت دموعهم تأثُّراً بمسرحياته، وأعلن الولاء المطلق للخامنئي الذي حاكتْ أفعالُ ميليشياته في سوريا أفعالَ المغول والبرابرة: “في روحكَ القداسة (…) وفي كلامكَ أمرٌ يُلبَّى”!
إقرأ أيضاً: تسعون نجاح سلام: البيروتيّة حفيدة “الإفتاء” تعزف العود وتغنّي
إنَّ “المأزق”، الذي وضعنا فيه أمثال دريد لحَّام وغيره من صانعي الذكريات السورية، ليس له حلّ. وإنَّ السؤال عن كيفيَّة حماية الذكريات من سقطاتهم ليس له جواب.
فالأرجح أنّ سوريا القديمة، التي شارفت على التلاشي التامّ، أبت إلا أن تأخذ معها في رحلة التلاشي المستمرَّة كلَّ ما يخصُّها، بشراً وحجراً، وذكرياتٍ أيضاً.